قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم}.
الضلال وارد على الناس، ولكن الله عز وجل هدى الإنسان، فما هي الهداية وأقسامها؟
الهداية على قسمين:
الأولى: هداية كونية: وهي التي هدى الله بها الناس إلى الفطرة.
والثانية: الهداية التي في القرآن.
وهي على قسمين:
أولاً: هداية التوفيق: وهي من الله، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
ثانياً: هداية الدلالة: وهي هدايته صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذه الهداية خاصة به صلى الله عليه وسلم يدل الناس عليها.
ما أحوجنا إلى الهداية! لأن الإنسان ظالم فاجر ضال، لا يهتدي إلا أن يهديه الله عز وجل، وهداية الفطرة لا تكفي عند أهل السنة والجماعة؛ فقد جاء في حديث عياض بن حمار في مسلم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: {خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين} فمعنى حنفاء أي: على الفطرة، وهذا يؤيده الحديث الصحيح: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه} لكن الفطرة وحدها لا تقوم بالهداية، فيحتاج العبد إلى أمر تفصيلي في الهداية.
وما هي طرق الهداية؟
الهداية لها طريقان اثنان: اسمع يا من يريد الهداية! اسمع يا من يريد طرق باب الهداية!
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
الأولى: هداية القرآن: وهي هداية تفصيلية ومجملة.
الثانية: هداية الرسول عليه الصلاة والسلام: وهي السنة.
فمن لم يهتد بالقرآن ولا بالسنة فلا هداه الله! حفظ عن ابن تيمية أنه قال: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً وعدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والهداية لها طرق:
الأول: من أعظم طرق الهداية: الدعاء والتبتل، خاصة الدعاء في السحر، في الليل وأنت تصلي ركعتين في جنح الظلام.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسمار
ويوم تركنا ركعتي السحر خمد الإيمان في قلوبنا، ويوم تركنا ركعتي السحر قل النشاط، ويوم تركنا ركعتي السحر قل الإخلاص إلا عند من رحم الله.
كان طاوس بن كيسان وهو أحد رجال الصحيحين، الزاهد العابد الشهير والعالم النحرير الكبير يدور على أصحابه في السحر فطرق على أخ له، فخرج أخوه وهو نائم، قال طاوس: أتنام في هذه الساعة؟ قال: نعم.
قال: والله ما ظننت أن أحداً ينام في هذه الساعة.
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
يظن طاوس أن الناس لا ينامون في وقت السحر، وفي الصحيحين: {ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا -لكن نزولاً يليق بجلاله، لا نكيفه ولا نمثله ولا نعطله- فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من تائب فأتوب عليه؟!} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
لطيفة واستطراد مع طاوس بن كيسان، وهذه تنبئنا عن مسألة الظلم والعدل ومسألة التعلق بنصرة الواحد الأحد.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم عليّ كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
قال طاوس بن كيسان -وهذه القصة في البداية والنهاية لـ ابن كثير: دخلت الحرم، فصليت ركعتين عند المقام، قال: فدخل الحجاج بن يوسف الثقفي بحرسه، فوضعوا السلاح حراباً وسيوفاً ورماحاً، قال: فسمعت الجلبة فلما سلمت عرفت أنه الحجاج، فما تزحزحت من مكاني، طاوس بن كيسان مولى لكن قلبه مغذى بالتوحيد والإيمان.
قال: فأتى بدوي من أهل اليمن وهو لا يعرف أن الحجاج جالس وأن حرس الحجاج جلوس، ولا أن الحراب والسيوف جاهزة، فأتى يطوف فدخل من عند الحجاج فاشتبك ثوبه بحربة عند الحجاج فوقعت الحربة على الحجاج، فأمسك الحجاج بن يوسف بثوبه والحجاج هو الحجاج! كما قال أحد الناس حين سئل من هم أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين لا تعريف لهم إلا أهل السنة، فـ الحجاج هو الحجاج، والجبل هو الجبل.
يقول الحسن البصري: أما الحجاج الثقفي فإنه يقرأ القرآن على لخم وجذام، ويلبس لباس الفساق، ويعظ وعظ المتقين، ويبطش بطش الجبارين.
فقال الحجاج لهذا البدوي: من أين أنت؟
قال: من اليمن.
قال: كيف تركتم واليكم على اليمن؟ يقصد أخاه محمد بن يوسف، وكان ظالماً مثله.
قال: تركته بطيناً سميناً، إن قال: تركته متقياً مصلياً الليل فقد كذب، وإن قال: تركته قارئاً للقرآن أو معلماً للسنة فقد كذب، قال: تركته بطيناً سميناً، يعني: يأكل ويسمن ويتبجح في أموال الله.
قال الحجاج: لست أسألك عن صحته، إنما أسألك عن سيرته.
قال: تركته غشوماً ظلوماً.
قال الحجاج: أما تعرف أنه أخي، وأنا الحجاج؟
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟!
قال طاوس: فوالله ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت.
هذه الكلمة لا تقوم شعر الرأس فحسب، بل هي ألغام متفجرة، لكن على من يعيها.
فهذه الكلمة درس ومحاضرة في التوحيد، تتفجر فتنسف كل ملحد وزنديق على وجه الأرض.
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟! أنت تمرض وتموت كما يموت الحمار، فأنا أتعلق بالذي لا يموت، ولا يفتقر ولا يهرم، ولا يعدم سبحانه وتعالى.
اسمع التخلية في القرآن: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] قال ابن عبد الهادي في الكواكب الدرية: ذهب ابن تيمية في الإسكندرية، فلما نزل في الشارع اجتمع أهل مصر من المبتدعة وغلاة الصوفية يريدون قتله، فقال له أحد تلاميذه: يـ ابن تيمية رويداً رويداً! هؤلاء يريدون قتلك، فتبسم ابن تيمية قال: يريدون قتلي؟ قال: نعم.
قال: والله ما هم إلا كالذباب، ثم نفخ في كفه.
وحتى لو قتلوه فإنها لن تقوم الحرب العالمية الثالثة، هو يريد أن يموت في سبيل الله، ويطلب أن يموت لذات الله، ويقصد رفعة كلمة لا إله إلا الله، وما الدم والمال والجسم والعظام والعصب إلا هباء إن لم يحي على (لا إله إلا الله).
{يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} كيف نستهدي الله؟
نستهديه سبحانه وتعالى بالدعاء كما أسلفت، برفع الأكف إلى الله؛ فإنه لا يهدي إلا الله.
الأمر الثاني: بصدق التوجه، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ويقول جل علاه: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] ومن طلب الهداية هداه الله، ومن طلب الزيغ أزاغ الله قلبه، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] تقول للمبتدع: مالك ابتدعت؟! قال: كتب الله وقدر أن أبتدع، سبحان الله! أجبري في المعصية قدري في الطاعة؟!
حاور ابن تيمية بعض الصوفية الغلاة، ومر بأحدهم وهو يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم، وفي القرآن: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] فقال: لا عقل ولا نقل.
فهذا جاهل مركب.
ولو أنه جهل بسيط عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب
والجاهل المركب هو الذي لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العروض، وهو أحد أذكياء الدنيا، عقلية متوقدة، بقي من ذكائه يمشي ويفكر حتى اصطدم رأسه في سارية المسجد، فصدمها فمات، يقول الخليل بن أحمد الناس أربعة أقسام:
الأول: رجل يدري، ولا يدري أنه يدري؛ فذاك عالم غافل فنبهوه، أي قل له: إنك تعلم، فاخرج إلى الناس لتعلمهم.
والثاني: رجل يدري، ويدري أنه يدري، فذاك عالم فاسألوه.
والثالث: ورجل لا يدري، ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه.
الرابع: رجل لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاتركوه، وهذا جاهل مركب.
فهم أربعة أقسام.