{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
إي والله! وجدوا معيشة الضنك يوم سكنوا ناطحات السحاب بلا إيمان، وجدوا عيشة الضنك يوم استقلوا السيارات الفاخرة بلا إيمان، وجدوا عيشة الضنك يوم سكنوا الفلل وتولوا المناصب بلا إيمان: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:124 - 125].
كان يبصر، بل كانت عيناه تدحرج كعيون القط في الحياة لكنه لا يبصر الهداية، يبصر التفاح والموز والبرتقال، يبصر الورقة والدخان، والمعاصي، والمسكرات والمخدرات، يبصر الفاحشة والجريمة، يبصر كل شيء إلا الدين والمصحف، مصحفه مجلة خليعة، وتلاوته الأغنية الماجنة، وجلاَّسه كل رعديد وزنديق ومارد وفاجر: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126].
أيها الأخيار: ليس العمى عمى العينين ولو أنه عمى ظاهراً، إنما العمى عمى القلب: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
تجد بعض الناس عيونه كعيون الثور، لكنه لا يفهم، ولا يعي، ليس عنده قلب ولا حياء، مثل أبي جهل ينظر ويبصر، وعبد الله بن أم مكتوم أعمى بعيونه، ولكن قلب ابن أم مكتوم يعي ويبصر، وقلب ذلك الفاجر أعمى، فيقول الله في أبي جهل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] والذي يعلم أنما أنزل من عند الله: ابن أم مكتوم.
أما أبو جهل فهو أعمى عن الحق.
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في عمى ابن أم مكتوم {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2].
وهذا الأعمى أبصر الهداية، يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام، كأنه يقول: مالك تأتي إلى الثيران في الحضائر وإلى المجرمين وإلى الفجرة الذين تدحرج عيونهم وهم لا يعرفون القرآن، ولا الهداية، ولا النور، وتُعرض عن الصالحين ولو كانوا فقراء عمي في الظاهر لكنهم في الباطن مبصرون: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10].
أما تدري أن هذا الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء! ولذلك عاش ابن أم مكتوم حتى أتت معركة القادسية وحمل ابن أم مكتوم الراية وهو أعمى وقُتل في المعركة شهيداً، وأبو جهل قتل وسَيُدَهْدَهُ على وجهه في النار.
ابن عباس ترجمان القرآن، حبر الأمة وبحرها، العلامة الكبير، الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}.
لما كبر وبلغ السبعين عمي، فقال له بعض الحساد: أحسن الله عزاءك في عينيك يا ابن عباس! كلمة حق أريد بها باطل، يستهزئ أو يستهتر، فرد ابن عباس وعرف أن الرجل مستهزئ مستهتر فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكيٌ وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
هكذا الهداية، وهكذا الإشراق واللموع، ما دام أنه عرف الله فلا يضره ذهاب البصر، إنما المشكلة ذهاب البصيرة.
إذاً، فإبراهيم عرف الله؛ فحاور هذا، فسعد في الدنيا والآخرة، وأضل الله ذاك الشقي لأنه لم يعرف الهداية.
أيها الإخوة: لا ينقصنا خبز ولا مربى ولا خضروات ولا ميرندا، إنما ينقصنا الهداية والالتجاء، ينقصنا زيادة الإيمان، وكيف نعرف طريقنا، ينقصنا دعاة ينزلون إلى الساحة، لا ينقصنا شهادات فقد أصبحت براويز معلقة في البيوت، ولا ينقصنا دنيا فقد مات أكثرنا في المستشفيات من التخمة وكثرة الأكل، يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
ما سمعنا بأحدٍ في هذه الفترة مات جوعاً هنا، ولكن سمعنا أن قلوباً تموت جوعاً وتموت ظمأً وفقراً، وتموت قحطاً وجدباً.
فهل من غيث، ولا غيث إلا (الكتاب والسنة)؟