يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
يدخل إبراهيم عليه السلام يحمل لا إله إلا الله، يتصدر بالدعوة في سبيل الله، ينزل للناس، يدخل على الطغاة في قصورهم، يدخل على المجرمين في أوكارهم، وفي هذا درس لكم يا طلبة العلم! يا دعاة الإسلام! يا حملة الشهادات! يا أصحاب الكليات! يا من درس العلم الشرعي! فيه درس على أن تنزلوا إلى الساحة، وأن تخالطوا الناس، وتعظوهم، وتشعلوا المنابر، وتتحدثوا إلى الجماهير، فالله يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] هل ينكر عظمة الله إلا من ألحد؟! هل ينحرف عن منهج الأنبياء إلا من تزندق؟! {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] إي والله! من الذي يحيي العظام وهي رميم؟ إلا الله؟ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] من أخرج المولود باكياً من بطن أمه لا يعرف شيئاً فدلَّه وبصَّره، وأحياه وأطعمه وسقاه؟! من علم النحلة بيتها ورزقها، وأن تجوب القفار والوهاد والجبال؟! من علم الثعبان أن يرتحل ويهاجر؟! من علم الجرادة أن تأوي والنملة أن تجمع في جحرها؟!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاَّكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا
ذكر ابن الجوزي: أن رجلاً رأى عصفوراً يأتي بقطعة لحم فينقلها من مكانٍ في المدينة ويرتحل بها إلى رأس نخلة كل يوم، فتعجب هذا الرجل؛ لأن العصفور لا يعشعش في النخل، فتسلق النخلة فرأى حية عمياء، كلما اشتهت الأكل أتى هذا العصفور بقطعة لحم، فإذا اقترب فتحت فمها فيلقي اللحمة في فمها.
سبحان من دلَّ العصفور ومن دلَّ الحية على رزقها!
فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258].
اسمع الكذاب، اسمع الدجال، اسمع الملعون الذي ينكر أعظم الآيات في الدنيا، ولذلك وجد في الساحة من تزندق واستهزأ بالقيم وتوحيد الألوهية والربوبية، إي والله وجد ذلك! عجباً لهم كيف يكفرون! وعجباً لهم لا يؤمنون! أفي الله شك؟! أفي آياته لبس؟! أفي ما أنزله من الكتاب والسنة غبش؟! حتى يستهزئ بعضهم بالقيم والأخلاق والدين والكتاب والسنة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66].
فسكت إبراهيم لا سكوت العاجز المتقهقر المنهزم، ولكن: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] قال: كيف؟! فأتى برجل مسجون قال: هذا أحييته تركته لوجوهكم، وأتى برجل آخر فذبحه قال: هذا أمتُّه.
إنه كذاب، والله ما هذا بالإحياء والإماتة، قال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] إن كنت صادقاً أنك إله فأتِ بالشمس من المغرب فإن الله يأتي بها من المشرق: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] انهزم وخاب {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] إي والله: إن أوراقهم تحترق فليس لهم حجج ولا براهين، دجالون كذابون مفترون على الله.
هذا جدال وحوار ومناظرة بين تقي عرف الله وهو إبراهيم، وبين شقي وهو النمرود وماذا كانت النتيجة؟ هل سكت النمرود؟ لا.
لقد جمع حطباً وأجج ناراً، وأمر الجنود بأخذ إبراهيم وقال: قيدوه وألقوه في النار فإلى من يلتفت إبراهيم؟!
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فحفظني ونصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
من يمنعك إلا الله؟! {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
يقول ابن عباس كما في صحيح البخاري: {حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم حينما ألقي في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم قيل له إن الناس قد جمعوا لكم}.
ألقوه في الحبال، وشدوا إبراهيم في القيد، وحملوه في المنجنيق، وأشعلوا له ناراً، وأتاه جبريل في الساعة الحرجة، والساعات الحرجة يعرفها بعض الناس منَّا، إذا أتت عليه مشكلة أو قضية يتمنى أن الجن يساعدوه، وبعض الناس ضعاف العقول والإيمان يستعين بالجن، حتى إذا مرض ابنه في البيت يذهب إلى المشعوذين والسحرة والكهنة، فينسى عقيدته وإيمانه، ومبادئه ومنهجه.
جاء جبريل إلى إبراهيم وهو مقيد بالحبال، لا إله إلا الله موقف ما أصعبه، ومقام ما أرهبه! قال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، فحملوه فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ووقع في النار فكانت برداً وسلاماً، فسبحان من أنجاه وحماه ووقاه! لأنه تقي، وسبحان من رد الخبيث الخسيس! لأنه شقي.
أتدرون بماذا عذب الله النمرود؟ ذكر بعض أهل العلم أن بعوضة دخلت أنف النمرود فتغذت على دماغه حتى أصبحت كالعصفور فكانت تفرفر في رأسه فيجد انزعاجاً وألماً وعذاباً وخيبة، لا تسكت هذه الفرفرة والقرقرة حتى يُضرب بالنعال أو بالكرابيج على رأسه، وفي الأخير ضرب فذهب مخ رأسه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار