وأما موسى عليه السلام فأمره عجيب صلى الله عليه وسلم، كان يرعى الغنم لكنه عرف الله، عنده عصا يهش بها على غنمه، ويتوكأ عليها، فجأة يقول الله له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
من هو فرعون؟
إنه رجل دجال جمع القصور والأموال حتى تكبر وتجبر، فوقف على المنبر يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
فيصفقون له ويقولون: تبقى وتسعد وتسلم عينك، لعنه الله في الدنيا والآخرة وقد فعل، يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
قال تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] موسى يعرف أن حرس فرعون ستة وثلاثون ألفاً يقول بعض الرواة: على القصر ستة وثلاثون ألف حارس، وموسى جاء من الصحراء معه عصا يرعى الغنم والضأن: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25].
هذا في أول طريقه إلى فرعون لدعوته، كيف أتكلم؟ ولكن أسعده الله فطلب شرح صدره، ذاق الناس اللذائذ لكن لم يجدوا كحلاوة الإيمان حلاوة، أكلوا الأطعمة، ولكن لم يجدوا لها طعماً بلا إيمان، جلسوا على المشروبات والمرطبات والمشهيات ولكن لم يجدوا لها طعماً يوم فات الإيمان: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25].
يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
فتِّش في صدرك، كيف كان قبل أن نشرحه؟ أما كان ضيقاً؟! أما كان حرجاً؟! أما كان متصادماً؟! ففتِّش في حناياك وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك؟! {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} [الزمر:22] أيستوي إنسان يأتي إلى صلاة الفجر بنشاط مع شخص لا يقوم إلا لصلاة الظهر؟! أيستوي إنسان يقرأ القرآن بحب مع إنسان إذا أتى إلى الصلاة كأنه يجرجر في الحديد أو يساق إلى السجن أو المذبحة؟! يقول سبحانه وتعالى عن الذين تضيق صدورهم بالصلاة: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
يقوم أحدهم إذا سمع الأذان فيجلس يستخير ويحرك عيونه ربع ساعة هل يقوم أو لا؟ الشيطان يسحبه إلى الفراش والله يدعوه إلى المصلَّى، فيتوضأ ويأخذ وقتاً طويلاً حتى يقيم الناس الصلاة، ويأتي يدردر أرجله، ويقف في طرف الصف كأنه نخلة منكوسة على جدار! {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
لا حياء، هل يستوي هو ومن ينشرح للدين؟! ويحب ويتلذذ بسماع القرآن، ويهش للرسالة الخالدة، ويجلس مع الدعاة، ويحب طلبة العلم، ويحب زيارة العلماء، ولسانه دائماً رطبة بذكر الله؟!
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
هل يستوي هذا مع إنسان لم يشرح الله صدره، أحسن شيء عنده أن يسمع الأغنية، يعيش في الهيام والخيال، يقول: دعنا من ذكر الموت، دعنا من التزمت والتشدد، يريد محرمات، وكأنها حلال وأما الطاعات فتشدد وتزمت؟!
نقول له: اجلس معنا، قال: لا.
له كتب خاصة من كتب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وله مجلات غير المجلات، ومجالس غير المجالس.
وقال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27].
أريد يا رب أن أكون داعية، أريد أن أكون خطيباً أرجُّ قلب الفاجر، وفي هذا درس: أن على طلبة العلم أن يتعلموا الخطابة والكتابة، ويتعلموا الأدب، ويتعلموا فنَّ الكلمة وروعة الخطاب، وفن المقام والكلام والالتزام، وأن يتعلموا السحر الحلال في الكلمات والجدال، ليحولوا أحوال الناس من حال إلى حال.
قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].
لأن في لسانه شيئاً فحل الله عقدته، ولكن قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30] فجعل الله له ذلك في آخر الآيات، قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وذهب موسى وهارون، وقال الله لموسى وهارون وهما في الطريق: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] أي: تجاوز الحد، لكن اسمع أدب الدعوة: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] لأن القلوب لا تلين إلا لكلمة حبيبة، والآذان لا تستمع إلا إلى الحب والصفاء، والقلوب والأرواح لا تنقاد إلا بالحكمة.
انتبها -يا موسى ويا هارون- لا تجرحا شعور الفاجر، وليس فاجراً مثل الفجار، بل دجال، ذبح الأنفس، وشرب الدم، وسوَّد وجه التاريخ، وداسه تحت قدميه: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال سفيان الثوري: "القول اللين الذي أمر الله به موسى وهارون أن يكنيا فرعون أي: يدادعوانه بالتكنية، يا أبا فلان، أنت إذا رأيت زميلك وحبيبك وناديته بكنيته يبتهج ويهش ويبش، يقول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب
كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فدخلا عليه، وكانت كنيته كما قال سفيان الثوري (أبا مرة) مرَّر الله وجهه في النار، وقد فعل، يقول موسى: يا أبا مرة إن أردت أن يبقي الله عليك شبابك وملكك وصحتك فأسلم لله رب العالمين، فقد سمعنا عنك الخير، وهذا أسلوب دعوي من السحر الحلال، وهو لم يسمع عنه إلا النار، ولم يسمع عنه إلا اللعنة والسخط والبغض، فقال له موسى: أنت مثلك يصلح الناس، ومثلك إمام يقتدى به، فأسلم وقل: لا إله إلا الله، فأتى الفاجر.
واسمعوا إلى الحوار: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49].
لا إله إلا الله، أنكر الله، أنكر من خلق السموات والأرض {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:17 - 22] والله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] ويقول: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49].
وهنا لو قال موسى: ربي الله، لقال فرعون: هو الله، وإن قال: ربي ربي، لقال: أنا ربك، فماذا يقول؟! فأتى بجواب مبهت مسكت دامغ، يقول الزمخشري صاحب الكشاف: لله دره من جواب كالصاعقة) {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] هذه مواصفات لا تكون إلا في الواحد الأحد، ولا يدعيها أحد أبداً، حتى يذكر ابن تيمية أنه لا ينكر الصانع أحد، حتى فرعون يوم قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قاله في الظاهر أما في الباطن فيعلم أن هناك إلهاً، ويعلم أن في السماء إلهاً، وأن من خلق السموات والأرض هو رب قادر حكيم سميع بصير، حتى يقول له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] يا مجرم والله إنك تعلم أن الله خلق السموات والأرض فلا تكابر!
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] خلَقه ثم هداه لمعيشته، وهداه لكل شيء، هدى النملة أن تأتي إلى الجحر فتنقل حبة لتخزنها للشتاء، هدى النحلة أن تسافر مئات الأميال والكيلو مترات وتأخذ الرحيق وتجعله في الخلية، هدى الثعبان كما يذكر مثل صاحب كتاب الإنسان لا يقوم وحده كريسي موريسون الأمريكي يقول: ما للنحلة تهاجر مئات الأميال وتعود إلى خليتها؟ من دلها؟ أعندها إريال؟ فيرد عليه سيد قطب: لا، بل علمها الله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] سبحان الله! ما أعظم الله! وما أجلَّه! ولكن ما أكثر من لا يتعرف على الله سبحانه!
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ولهذا لما لم يستطع فرعون أن يعاند هذا الدليل، راوغه بقوله {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] أي: ما للناس يموتون ولا يعودون؟! ما رأينا آباءنا وأجدادنا، هذه كلمة يقولها كثير من الملاحدة والزنادقة، كـ لينين وماركس وهرتزل وأمثالهم وأذنابهم وعملائهم، كلمتهم هذه يقولون: يموت الإنسان ثم يتحلل ولا يعود، لا والله، والله لتبعثن كما تستيقظون ولتموتن كما تنامون: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
وانظروا أيها الإخوة كيف كان جواب موسى لفرعون عندما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] فكأن من المناسب أن يكون الجواب وما دخلك أيها المجرم من هذا الكلام؟ لقد تجاوزت حدودك؛ لكنه أجاب عليه بكلام مؤدب، كما أمره الله عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىَ} [طه:44] فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] فدمغه، وأزهق روحه، وانتصر عليه في الحوار في ديوانه وتحت سقف قصره، كما انتصر عليه في القتال في البحر يوم نصره الواحد الديان، إذاً حربه برية بحرية، ونظرية علمية، وميدانية قتالية، وهذا هو الجدل العلمي العملي الذي عاشه موسى عليه السلام في حياته الدعوية وانتصر، فهو التقي الذي دمغ الفاجر الشقي.