حقيقة الدنيا وحقارتها

أحبتنا في الله! هذه الدنيا ما الذي يجعلنا نقعد عن الجهاد بألسنتنا وبأنفسنا قبل ألسنتنا، وبأموالنا أيضاً؟! ما الذي يجعلنا نتعلق بها أهي دنيا قد سلمت من المنغصات؟! لا والله.

ما أضيق العيش ما دامت منغضةً لذاته بادكار الموت والهرم

هذه الدنيا:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار

فاقضوا مآربكم عجالاً إنما وأعماركم سفرٌ من الأسفار

إننا في هذه الدنيا على سفرٍ وعلى رحيلٍ، فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا بالزاد النافع، وأن يثبتنا بفضله ودينه.

فما دامت هذه الدنيا لذاتها مُنَغصة، ما رأينا صحيحاً إلا وأعقب المرض صحته، وما رأينا رجلاً سعيداً باجتماع أحبته إلا وفرق الموت أحبابه وشتت شملهم، وما رأينا قوماً في عزٍ إلا ونالهم من طوارق الزمان، ومآسي الحدثان ما أصابهم:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الحياة كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمان

وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شان

أين الملوك ذوي التيجان من أرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسان

أين أولئك جميعاً؟

أتى على الكل أمرٌ لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

هذه الدنيا التي نتعلق بها ونقعد فيها بخلاً بالنفوس أن تنال منازل المجاهدين وفضل الشهداء، نتعلق بأي شيءٍ في هذه الدنيا؟! هل نتعلق باجتماعها الذي يعقبه الفراق؟ أم بعزتها التي يكدرها الذل؟ أم بمالها الذي يعقبه الفقر؟ أحوالٌ لا يعلمها إلا الله:

يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً

والذين تعلقوا بالدنيا، لأنهم في حالٍ من اللذة والنعيم، لا يعرفون ما يحوي هذا الزمان في جوانبه وأحشائه

والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبه

فيا أيها الأحبة! اعلموا أن هذه الدنيا التي نخاف عليها، ونتعلق بها، وتشدنا بالطين إلى أوحال الأرض، وتجذب النفوس من أن تُحلق في ملكوت الله، وتدنو من رحمة الله جل وعلا، إنها دنيا لا يؤسف عليها، هذه الدنيا: (لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضةٍ، ما سقى منها كافراً شربة ماء) ولكن: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7].

أيها الأحبة! ثم هذه الدنيا وقد تأملنا وإياكم في ملذاتها وما فيها، ليس فيها والله أمرٌ يدعوك إلى أن تتعلق بها غاية التعلق، الطعام الذي تأكله: في أي بلادٍ زُرع؟ وبأي أيدٍ حصد؟ وعلى أي سفينة نُقل؟ وعلى أي شاطئ نزل؟ وبأي أيدٍ وصل؟ حتى وصل إليك، فجمعت أخلاطه وأنواعه؛ من طعامٍ وشراب وألوانٍ، حتى إذا تهيأ وأصبح لقمةً تزخرفت لآكلها، وسال لعاب مشتهيها إليها وعليها، لم يجد لذتها إلا وقت وضعها على لسانه، ثم لما دخلت في جوفه أصبحت حبيسة الجوف، يعذب بها عذاباً شديداً، لولا أن الله فرج عنه بأن جعل له منها مخرجاً، وهذا أمرٌ عجيب!! غاية اللذة التي تريدها سرعان ما ترجو الله أن تتخلص منها! وغاية الشراب الذي تبذل كل شيءٍ من أجله سرعان ما تسأل الله أن يُفرج لك لو احتبس شأنه! قيل: إن أحد الخلفاء كان في فلاة، فجاءه من الصالحين رجلٌ فقال: أيها الأمير! أرأيت لو عُدمت الماء أكنت تشتري شربةً بنصف ملكك؟ قال: إي والله أشتري هذه الشربة بنصف ملكي، قال: فإذا شربت فاستقرت الشربة في جوفك واحتبست ولم تجد سبيلاً لإخراجها إلا بنصف ملكك الآخر، أكنت تبذل نصف ملكك في إخراجها؟ قال: إي والله لأخرجنها ولو بنصف ملكي، قال: فتباً لملكٍ لا يساوي شربة ماء! من أجل هذا نعلق النفوس بالله، وما عند الله، وبنعيم فضل الله.

أيها الأحبة! وهذه الدنيا التي نتعلق بها، ما رأينا أحداً فيها إلا وفيه من الهموم والمصائب ما الله به عليم، ولا يخلو أحدٌ فيها من عداوة:

ليس يخلو المرء من ضدٍ ولو حاول العزلة في رأس جبل

إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل

كيف تجد إنساناً في هذه الدنيا يريد أن يسلم من عداوة أهلها، لا والله لا يستطيع أحدٌ أن يسلم من عداوة الناس في هذا الزمان، أو أن يناله الناس من منتقدٍ أو مجرحٍ أو حاقدٍ أو حاسدٍ، أو ممن ينال من عرضه، أقل من ذلك أو أكثر، وما دامت هذه أحوال الناس فلا تغبطوا أحداً على دنيا مهما تنافسوا في التطاول بالقصور أو تفاخروا بسعة الدور، أو تشاحوا على المراكب والمفارش وغيرها، هذه الدنيا شأنها عجيب:

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره

أو ما ترى الملك الكبير بجنده رهن الهموم على جلالة قدره

فتراه يمضي مشغلاً في باله همٌ تضيق به جوانب قصره

ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يُصاد بوكره

ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره

والحوت يأتي حتفه في بحره والوحش يأتي موته في بره

كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومُرِّه

إذاً: هذه الدنيا كما قال الله تعالى فيها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وأقول هذه المقدمة وأسوقها لكي نعلم أن الذين يتعلقون بالدنيا قعوداً بها، ولأجلها ولشأنها ولملذاتها عن الجهاد في سبيل الله، والبذل لدين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ إنما يدعون هذه اليواقيت والدرر العظيمة من أجل دنيا لا يؤسف على فراقها.

وكما قال أحد الصحابة -ولعله معاذ بن جبل - لما حضرته الوفاة وكأنه أجهش، فقالوا: وأنت صاحب رسول الله تبكي، قال: [والله ما على فراق دنياكم هذه أبكي، وإنما أبكي على فراق ليالي الشتاء -طول القيام والتهجد- وظمأ الهواجر -أطول النهار في هاجرة الصيف- ومجالسة أقوامٍ ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله].

نعم.

لا يحزن على الدنيا إلا لأجل هذه الثلاث، أما ملذاتها وغير ذلك فهو لا يحزن على فراقها بأي حالٍ من الأحوال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015