الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين! في الآونة الأخيرة لا يكاد يمر عامٌ أو عامان إلا وتُفتن أمة الإسلام بفتنةٍ جديدة في بقعةٍ جديدة، تُظهر حال الذل والهوان الذي يعيشه كثيرٌ من المسلمين اليوم، وتكشف مستوى الولاء بين المسلمين قوةً أو ضعفاً، وقضية المسلمين في كوسوفا واحدةٌ من سلسلة القضايا التي أغنت الصور فيها، عن كثيرٍ من مفردات قواميس البلاء والتشرد والقتل والإبادة والتصفية العرقية.
إنها قضية شغلت العالم بأسره شرقه وغربه، مسلمه وكافره، وحسبكم بحال المسلمين فيها أن يُعلن اليهود استعدادهم لإيواء بعض اللاجئين أو إرسال بعض المعونات إلى المسلمين، واليهود -كما تعلمون- لم تجف دماء إخواننا بسبب مذابحهم واغتيالاتهم في فلسطين على الأرض المباركة، في الأسابيع الماضية صار الموتُ قبل ورود العار أمنية، وصار التشرد والرحلة إلى المصير المجهول أغنية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وأن المنايا قد غدون أمانياً
أيها المسلمون! قلنا في الجمعة الماضية إن الحرب الدائرة الآن ينتصب الصرب الأرثوذكس في أحد طرفيها، وهم المعروفون بالحقد المقيت ليس على المسلمين وحدهم، بل حتى على إخوانهم الكاثوليك، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، وليست هذه الإبادة هي الأولى من نوعها لإخواننا المسلمين على يد الصرب، بل سبقها حلقاتٌ في مسلسل الإبادة والتصفية العرقية.
لقد كان المسلمون في كوسوفا 95% والخمسة الباقية من السكان بين الصرب الأرثوذكس والكاثوليك، ومع ذلك وباستمرار مسلسل التطهير والإبادة أصبح المسلمون قلةً بالنسبة لهؤلاء، ومع ذلك لم يشفع للمسلمين جهل كثيرٍ منهم بالإسلام، أو مشابهة كثيرٍ من المسلمين للنصارى في عاداتهم وتقاليدهم وأمور حياتهم، لأن المسلمين ارتكبوا ذنباً لا ينساه الصرب أبداً.
وهو أن أجداد هؤلاء المسلمين اعتنقوا الإسلام ودانوا به، يوم دخل السلطان مراد العثماني تلك البقعة ونشر الإسلام فيها قبل أكثر من (600) سنة في معركةٍ حاسمة بين الإسلام والنصرانية في أوروبا، فكان لابد أن يدفع المسلمون ثمن إسلام الأجداد غاليةً كما دفعه أهل البوسنة قبل سنواتٍ قليلة: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
إننا لا ندري أين الطريق التي ستتحرك منها قوافل الفتح لفتح أوروبا، ولفتح روما، كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لتفتحن القسطنطينية وروما فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش، فقال الصحابة: وأي المدينتين تفتح يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل أولاً) يعني بها: القسطنطينية، وقد فتحت من قبل وجثمت العلمانية عليها الآن، وبقيت روما لم تفتح، فلا ندري هل ما دار في البلقان على أرض البوسنة، أو يدور الآن على أرض كوسوفا إرهاصٌ لحربٍ تكون نهايةً لهذه الأمم الكافرة؟ أيها الأحبة! القضية التي يتحدث عنها كثيرٌ من الناس: هي الحرب بين الناتو من جهة والصرب والدوما من جهةٍ أخرى، وتلك وإن كانت مسألة كبيرة وخطيرة، إلا أنها كما قلنا: لا تساوي شيئاً أمام تهجير المسلمين وتشريدهم وتنصير أطفالهم، بعد أن تتقاسمهم الأديرة والكنائس ليتربوا هناك، في ملاجئ ومهاجر ومحاضن الكفار المنتشرة في أنحاء أوروبا، وهل يبقى بعد ذلك انتماء، أو تصمد هوية؟! هذا هو الوجه الأخطر للحرب القائمة، وأما الدمار للمنشآت الصربية، وأما الحرق للمباني الصربية، فهو وإن كان قرحاً يسرنا ما نراه فيهم، وما نراه من ضرباتٍ عسكرية متتابعةٍ من الناتو، وإن كان يسرنا أن يُسلط الله كافراً على كافر، لكن بيقين أن حفنةً من ملايين الدولارات تعيد البناء أحسن مما كان، فضلاً عن قلة المتضررين بشرياً من الصرب، لكن مصيبتنا العظمى هي جيل المهاجرين من كوسوفا إلى دولٍ أوروبية، في كل دولةٍ منهم جزءاً، وكل مدينةٍ تتقاسمهم في أحياء وكل حيٍ يذوبون فيه ويختلطون كما يذوب الملح في الماء، وما أهداف وأبعاد معركة الصرب هذه إلا من أجل أن يذوب المسلمون في المجتمعات الأوروبية، لأن تجمعاً وتكتلاً بشرياً على رقعة واحدة منذرٌ بخطر على هؤلاء، أن تقوم دولةٌ إسلاميةٌ هناك.
أيها الأحبة في الله! هذا الجيل المهاجر هذا الجيل المشرد هذا الجيل التائه الهائم على وجهه، من يعيده؟ ومن يبنيه؟ ومن يحفظ عليه دينه وهويته؟ اللهم إنك أنت المستعان، وأنت حسبنا وحسبهم ونعم الوكيل.