أيضاً أيها الأحبة من الأسباب الجوهرية في هذه القضية: مسألة التربية.
نحن نربي أطفالاً بلا هدف، تسمين عجول، تسمين أبقار وأغنام في كثير من البيوت، تجد الطفل يتدحرج من العافية لكن عقله كالطبل لا يوجد فيه شيء، عجبت للطفل الشيوعي أو الطفل الروسي قبل سقوط روسيا تجده شيوعياً من صغره، والطفل العراقي التابع لمدارس حزب البعث تجده بعثياً من طفولته، والطفل المنحرف الفاجر الذي هو في بؤرة فاجرة تجده يحقد على المسلمين منذ صغره، والطفل النصراني تجده عقلاً ممتلئاً بكراهية المسلمين والشعور بالفخر للعنصرية البيضاء تجاه الآخرين.
ولكن طفلنا اليوم اسأله عن انتمائه، اسأله عن اتجاهه، اسأله عن آلامه، اسأله عن آماله، لا يجد شيئاً، طفلنا يعرف أفلام الكرتون، ويعرف مجلة ميكي والوطواط، ويعرف قصة البيضة الفارغة والعصفور المكسور، أما أن تجد عند أطفالنا تربية ذات هدف هذا لا يوجد إلا عند أسر محدودة من الناس، أما البقية الباقية من كثير من هذه الشريحة تجدها -ويا للأسف! - يربون أطفالاً تربية التسمين، بل لو قيل لأحدهم: يا فلان ما ضرك لو أنك مع مجموعة من جيرانك استقدمتم أو استوفدتم مدرساً من إحدى البلاد العربية الإسلامية أو حتى من بلاد العجم من باكستان وغيرها وجعلته يدرس أولادك القرآن براتب شهري قدره ألف ريال إذا قدرنا نحن عشرة بيوت، وعند كل واحد منا طفلان، يعني: عندنا عشرون طفلاً، كل واحد منا يقدم قرابة مائتي ريال شهرياً من أجل أن ندفع مرتباً قدره ألف لمدرس يحفظ أبناءنا بعد العصر ويدرسهم، وبعد المغرب يعطيهم درساً في السيرة، وبعد العشاء ربما راجع مع بعضهم شيئاً من الواجبات لقالوا: وهل نحن مجانين؟ نحن نخسر الأموال بهذه الطريقة؟ هل نحن حمقى؟ إذاً ما دور المدارس؟! يا أخي الكريم إن المدرسة لا تغني عن التربية شيئاً، بل إن الأصل في تفوق الطالب ربما كان صلاح تربيته في أسرته، وفي المقابل تجد كثيراً من البيوت فيها خادمة بستمائة ريال، والسائق بقرابة ثمانمائة ريال، الخادمة دورها تلميع الزجاج والأبواب والنوافذ، ونبذل الستمائة ريال ونحن في منتهى الشعور بالراحة والطمأنينة، لكن أن نقدم ستمائة ريال لمدرس يدرس أولادنا لا، هذا ولد إن نفع فلنفسه وإن أساء فعليها لا يا أخي، هذا الولد يحتاج إلى تربية، ولذلك كثير من الشباب الذين وجدناهم بصفة اللاهثين الذي يجوبون الطرقات، ويملئون الأرصفة، ولا هم لهم إلا آخر أغنية وآخر مقطوعة، ومن الفريق الذي فاز، ومن هي الممثلة التي اعتزلت، ومن هو الفنان النجم الذي مات، ومن هو ومن هو إلخ، أولئك تجدهم لم يتلقوا تربيةً على مستوى علمي أو عقلي أو ثقافي أو ديني، ولأجل ذلك امتلأت عقولهم بالزبالات، أما الذين يتربون تربية راقية يشعر الرجل منهم أن ولده فيه عقل في رأسه، وهذا العقل الذي في الرأس بمثابة الزجاج البلوري الكريستالي اللامع الجميل، فتجد الرجل يقول: أنا لا أجعل عقل ولدي الزجاجي البلوري الناعم مكاناً للزبالة ولا للرمال المختلطة ولا للنفايات، بل أحترم هذا العقل -عقل الطفل أحترمه- وأجعله مكاناً يحفظ القرآن ويحفظ السنة، ويتعلم الشعر، ويعرف الآداب، ويقرأ عن أخبار العرب وعن معارك المسلمين، ويكون لديه اطلاع بأحوال المسلمين في العالم هذا أمر ممكن أيها الإخوة.
منذ أيام كنت في زيارة لأحد الأصدقاء وعنده ولد صغير نجح من المرحلة الخامسة الابتدائية إلى السادسة الابتدائية، فبينما نحن نتحدث إذ دخل معنا الطفل في الحديث، وإذ بي أجد طفلاً يتحدث عن البوسنة والهرسك، ويتكلم عن سراييفو، ويتكلم عن ميتران رئيس فرنسا النصراني الحاقد الذي حال دون المسلمين واستلام المطار ليكون مهبطاً لدعم الأسلحة، ويتكلم عن مؤامرات الصربيين إلى تقسيم البوسنة والهرسك بين الكرواتيين، فجن جنوني! قلت: ما شاء الله! لا إله إلا الله! تبارك الله! هذا الطفل ينجح من خامسة إلى سادسة ابتدائي ويتكلم عن هذه المعلومات؟! فلما تأملت إذ بوالده ووالدته يتحدثان إذا جلسا على الطعام وإذا جلسا للشاي عن هذه القضايا، ويلقنان الولد هذه الأمور فتجد طفلاً يحمل قلباً كبيراً، وتجد صغيراً يحمل عقلاً فذاً، وتجد ناشئاً يحمل هموم أمة، وفي المقابل تجد رجلاً عمره خمسة وعشرون سنة أو سبعة وعشرون سنة لا هم له إلا أن ينتظر حبيبته تفتح النافذة لكي يلقي عليها بنظرة، أو لا هم له إلا أن ينتظر رسالة المعشوقة متى ترسل بالرسالة مع طفل أو مع سفير أو مندوب، أو لا هم له إلا أن ينتظر متى يحين الوقت لخبص البلوت وتعمير الشيشة وهلم جرا! وأين قضايا المسلمين؟ وأين أحوال المسلمين؟ وأين العبادة؟ وأين الخوف من الله؟ وأين الطمع في الجنة؟ وأين الإعداد للموت؟ وأين الإعداد لما بعد الموت؟ وأين الإعداد للسؤال والجواب بين يدي الله؟ لا تجد شيئاً.
إذاً: أيها الأحبة! التربية سبب، فربما ربينا أطفالاً أصبحت أجسامهم أحسن من أجسام البغال، يصلحون للكد والتحميل، ولكن عقولهم -أيضاً- كعقول البغال:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
بل إن بعض المجانين أصبحوا أحسن من بعض اللاهثين، والشيء بالشيء يذكر، خذوا هذه الطرفة اليسيرة: يقال: إن رجلاً -شاب من الذي جاء يفحط بسرعة- جاء ولف بسرعة عند مكان من الأماكن فمن شدة لف الكفرات صواميل الكفر -البراغي التي تمسك الكفر في السيارة- انقطع، فجلس هذا الشاب المفحط يدور إذ به يدور حول مبنى مستشفى المجانين، وإذ بمجنون يطل على هذا الشاب من النافذة فقال المجنون: لماذا أنت تدور على السيارة، ما بك؟ قال: والله أنت ترى، لفيت بسرعة وانقطعت صامولة الكفر وجالس هكذا.
قال المجنون: فقط، يا أخي فك من كل كفر صامولة وركبها محل الصواميل التي انكسرت.
قال: والله اقتراح جميل وفكرة صحيحة! طيب أنت لماذا أنت جالس في مستشفى المجانين؟ قال: صح، هذا مستشفى المجانين وليس مكان أغبياء.
فالواقع أن عندنا من الغباء ما يتعدى الجنون، بل إن بعض المجانين أفضل حظاً من بعض شريحة اللاهثين الأغبياء، ولا نقول هذا مزيداً لاحتقارهم، ولا نقول هذا مزيداً من هوانهم بل فيهم من الهوان ما يكفي قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
ولكن نقول: إن هوان العقل عند شريحة من أبناء الأمة بلغ حداً مضحكاً عجيباً.