التحذير من اتباع الهوى وترك الهدى

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن المقارن بين القرون الخيرية وبين ما نحن فيه يجد أن المسلمين الأوائل كانوا ذروة السنام، وكانوا هم الأئمة الأعلام، وكان الإسلام يرفرف على أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، مع قلة عددهم وعدتهم وفقرهم وحاجتهم.

وأما نحن فمع كثرة عددنا وعدتنا إلا أننا في هوة سحيقة وفي واد سحيق، وإنا أخس الأمم وأرذلها يدوس اليهود والنصارى فوق رقاب وهامات المسلمين بنعالهم.

فرب سائل يسأل: لم هذا مع كثرة الإمكانيات في هذا العصر على جهة الخصوص، وما الذي جعل الأوائل يرتقون بإسلامهم حتى بلغوا به مبالغ عظيمة في شرق الأرض وغربها؟ وربما يسأل سائل -والحالة متردية ومزرية إلى هذا الحد-: هل نحن مسلمون؟ الجواب، نعم.

ونحن مسلمون كإسلام الأوائل؛ لأننا نشهد شهادتهم، أي: نشهد بما شهدوا به، ونعتقد ما اعتقدوه، ونؤمن بما آمنوا به، لكن: هل نحن متبعون أم مبتدعون؟ فإذا قال قائل: نحن متبعون؛ كان لزاماً أن يسأل سؤالاً فرعياً آخر: هل نحن متبعون للأثر؟ هل نحن متبعون للسنة، أم نحن متبعون للهوى؟ وإن شئت فقل: اتباع هدى، أو اتباع هوى؟ فربما تختلف الأنظار هنا: فمن يرى أن الصورة حسنة وأن المسلمين بخير يرى أن المسلمين متبعون للكتاب والسنة، والذي ينظر نظرة تفحص، ويعلم أن الأمة قد اختلفت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت إلى اثنتين وسبعين، وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.

قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

فإن الذي ينظر إلى تفرق الأمة في هذا الزمان يعلم أن الأمة ليست متبعة للهدى، وإنما هي متبعة للهوى، وهذا سر خذلانها وسر تأخرها وسر تكالب الأمم عليها.

وصدق فينا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟!).

يعني هم اليهود والنصارى، ومع هذا فإن اليهود والنصارى الآن لا يرضون بمجرد تقليدنا لهم إلا أن نعتقد معتقدهم، وأن نتهود كيهوديتهم، وأن نتنصر كنصرانيتهم، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].

فهم يرسمون الخطوات تتلوها أخرى؛ حتى ينخلع وينسلخ المسلمون من دينهم بالكلية، فلا يبقى فارق ولا مميز بين كافر وبين مسلم.

فلو أنك نظرت الآن وأنت تسير في شوارع القاهرة في بلد الأزهر، لا تكاد تميز قط بين يهودي ونصراني ومسلم، الخصال واحدة، والأخلاق واحد، والسلوك واحد، ولا أكاد أبالغ إن قلت: وكادت العقائد تقترب وتقترن، ويدخل بعضها في بعض.

فهذا هو سر التخلف، وسر التخلف هذا لم يصب طائفة من الأمة، وإنما أصاب جميع الطوائف إلا ما ندر، وإلا ما رحم ربك تبارك وتعالى، أصاب الحكام وأصاب المحكومين، أصاب الكبار والصغار، أصاب الرجال والنساء، فالأمة كادت تنفلت من هويتها وشخصيتها؛ ولذلك لن تجد كبير فرق بين المسلم وغيره، فهذا هو السر في تأخر المسلمين، أنهم تركوا الكتاب والسنة اللذَيْن أكد النبي عليه الصلاة والسلام عليهما طيلة حياته الدعوية النبوية، بل وأكد على ذلك قبل موته بأيام وساعات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي).

وهذا وعظ وخبر، والأمة آمنت بهذا الكلام باللسان وكفرت به من جهة العمل، فإن الواحد منا الذي يرفع شعار الالتزام وشعار التوحيد والاتباع، حتى إذا رأى الشرع يتعارض مع مصلحته مهما كانت هذه المصلحة فإنه يقدم هواه، ويقدم مصلحته على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

يظهر هذا في أن اثنين تخاصما وأنت حكم بينهما، فلزمك أن تأخذ عليهما أولاً: العهد والميثاق، وأن يلتزما بالحق مهما كان مراً، فإن كليهما يقر ذلك ويحترمه، حتى إذا حكمت في نهاية المجلس على أحد الخصمين قال: هذا الحكم جائر، وأنت لست قاضياً ولا مفتياً ولا عالماً؛ ولذلك أنا لا أقبله، يقول ذلك لأن اله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015