الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فموضوع درسنا هو بداية شرح كتاب: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) والذي يسميه العامة بـ: الداء والدواء.
ودائماً لابد قبل وصف الدواء أن يحدد وأن يشخص الداء، وإلا فلا يكون العلاج أو الدواء مناسباً للداء، ولا يكون ناجحاً ولا ناجعاً حينئذ، والأئمة رضي الله عنهم قد سلكوا مسلكاً في التصنيف بعد السؤال، فكان الواحد منهم إذا سئل سؤالاً انبرى قلمه لإجابة السؤال في رسالة أو كتيب أو كتاب، وربما يكون الباعث على التأليف والتصنيف عموم البلوى، أي: بلوى تنزل فتعم المسلمين فيرى أنه من الواجب عليه -وقد هيئ لكشف هذه الغمة- أن يكتب فيها كتاباً ينور البصائر ويزيل الغمة، أو يذكر أسباب هذه الغمة، ثم يتكلم عن المخرج منها.
وربما يكون السبب والباعث على التأليف والتصنيف: رد الجميل لذي النعمة والفضل، كإنسان أحسن إليه فأراد أن يكافئه.
وربما يكون الباعث أيضاً: أن طلب منه ولا يسعه مخالفته، فينبري قلمه حينئذ لإجابة هذا الطالب، وغير ذلك من البواعث.
وفي المقابل ربما يكون الباعث على التصنيف والتأليف: الرغبة في هدم الإسلام وخراب العقائد، ولذلك يكتب في دين الله الصالح والطالح، فنرى في عالم الكتب كتباً تكون عوناً لأبناء المسلمين على الثبات واليقين، وأحياناً نجد كتباً تهدم أصول الدين من صلاة وصيام وزكاة وحج، وكل على شاكلته، والطيور على أشكالها تقع، فترى أهل الإيمان مجتمعون، وترى أهل الشقاء كذلك مجتمعون، فهذا يجتمع على الخير، وذاك يجتمع على الشر، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:4 - 10] فكل ميسر لما خلق له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا ابن القيم رحمه الله تعالى واحد من أئمة العلم، وأئمة الهدى، وشيخ من شيوخ الإسلام، سئل سؤالاً عن القلوب وأحوالها، وعن التخلص من عللها، فما استطاع أن يجيب السائل مشافهة، وإنما أجابه في رسالة مستقلة، هذه الرسالة سماها: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، أي: في شفاء القلوب من أدرانها وعللها وأدوائها، وغير ذلك مما يعتريها، فشخص الداء أولاً -أي: داء القلوب- من الغل والحقد والحسد والضغينة وغير ذلك، ثم بدأ يعالج كل واحدة من هذه، ويذكر أسباب الداء أولاً، ثم يصف العلاج المناسب بها، وما تبعت الأمة علماءها فخاب سعيها قط؛ لأن العلماء هم شموس الإسلام، وأنوار الهداية للخلق جميعاً، وهم الذين يجب أن يحكموا العالم، وهم الذين يجب أن يقودوا الناس، ويأخذوهم بنواصيهم إلى الله عز وجل، وإلى بر الأمان، ولابد أن يكون الذي ينير الطريق، ويسلك بالناس في غياهب الظلمات أن يكون حاملاً للمشعل، وليس ذلك لأحد إلا لأهل العلم.