قال عليه الصلاة والسلام: (وكان الغلام يبرئ الأكمه).
أي: الذي ولد أعمى، وكان يداوي من سائر الأدواء والعلل، وكان للملك جليس أعمى، فلما سمع بأمر الغلام جهز هدايا عظيمة وذهب بها للغلام، وقال: لقد جمعت لك هذا على أن تشفيني من العمى، فقال الغلام: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل! انظروا إلى ظهور عقيدة التوحيد، من أول لحظة نسب العلاج لله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] لا يزعم أنه يشفي ويداوي من الأسقام والعلل، وإنما هو سبب سببه المولى عز وجل.
قال: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك من العمى، فآمن الجليس فدعا الغلام الله تعالى لهذا الجليس فشفاه الله عز وجل، فرجع ليجلس في مجلسه عند الملك، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، فقال بغطرسة ووقاحة وتبجح: ألك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله! انظروا إلى إظهار شعائر التوحيد على أيدي فئة قليلة، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
قال: ربي وربك الله، فأخذه فعذبه ونكل به حتى دل على الغلام، وأخذ الغلام وقال له: أبلغ من سحرك هذا المبلغ؟ فقال: أنا لا أشفي وإنما يشفي الله عز وجل، فنكل به حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا.
وأبى أن يرجع عن دينه.
فوضع المنشار في مفرق رأسه وشقه نصفين حتى ألقي على الأرض ولم يرجع عن دينه.
انظروا إلى رجل ضحى بنفسه فداءً لدينه وعقيدته، لقد سجل التاريخ وسجل الإسلام شهادة تقدير واحترام لهذا الراهب لأنه قدم نفسه فداءً لعقيدته.
هذا هو النصر الحقيقي؛ إنه نصر العقيدة.
ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى ألقي على الأرض نصفين فمات فتقبله الله عز وجل، وجيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر الملك أعوان السوء أن يأخذوه ويصعدوا به إلى ذروة جبل كذا وكذا في تلك البلدة من بقاع الأرض، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من ذروة الجبل، فلما كانوا في ذروة الجبل قالوا له: ارجع عن دينك، فأبى أن يرجع عن دينه، ورفع يديه إلى السماء؛ ليستخدم أعظم سلاح عرفه أهل الإيمان -ويستهين به أبناء الصحوة في هذا الزمان- قال: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فارتج الجبل فسقطوا جميعاً في الوادي ورجع الغلام بعزة أهل الإيمان واستعلاء وفخر أهل التوحيد إلى الملك المتغطرس الجبار يمشي على قدميه، فلما رآه الملك قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء وكيف شاء! فأمر بعض أصحابه أن يأخذوه في قرقور -سفينة- حتى إذا كانوا في وسط البحر قالوا للغلام: ارجع عن دينك، فأبى ورفع يديه إلى السماء وهو يقول: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فغرقوا جميعاً ورجع الغلام إلى الملك يمشي على قدميه، ثم تحدى الغلام الملك! أرأيتم صبياً صغيراً يتحدى ملك الأرض؟! غلام واحد يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، إن هذا لمن أعظم الجهاد وأفضله.
(قال له: إنك لن تقتلني حتى تفعل ما آمرك به، قال الملك: وما تأمرني؟) انظروا إلى موقف الذل والهوان لأهل الكفر والطغيان، حين يقول الملك بغروره وكبريائه للغلام: (وماذا تأمرني أيها الغلام؟ قال: إنك لن تقتلني حتى تجمع الناس جميعاً في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخلة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس وتقول على مرأى ومسمع من الناس: باسم الله رب الغلام) انظروا إلى هذه النكتة: (أن تقول باسم الله) لا باسم الملك، ولا باسم المسيح، ولا باسم العذراء، ولا باسم فلان، إنما تقول: (باسم الله رب الغلام، فإن فعلت قتلتني).
ففعل الملك، ربطه على جذع نخلة، وجمع الناس في صعيد واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام فوضعه في كبد القوس وأطلقه قائلاً: (باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغ الغلام، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، فلما رأى الناس ذلك قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام) أي نصر بعد هذا؟ أي انتصار لعقيدة الإيمان والتوحيد بعد هذا؟ أتظنون أن الغلام إذ قتل، وأن الراهب إذ قتل، وأن جليس الملك إذ قتل؛ أن تلك هزيمة؟ أهذا خذلان؟ كلا والله، تلك هي الملحمة الكبرى بين الإيمان والكفر التي يكتب فيها النصر لأهل الإيمان، والهزيمة والخسران، لا للجحود والكفر والطغيان.