وشأن الطغاة في كل الأزمنة والعصور أنهم لا يملكون حواراً ولا حجة ولا بياناً ولا أدلة، وإنما قالوا: {أَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97].
فكان قرارهم هو الحكم بإعدام إبراهيم حرقاً، كما قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26].
فالقتل والتنكيل والبطش والتعذيب لغة الطغاة في كل الأزمنة مع أصحاب دعوة التوحيد.
فجمعوا له حطباً ووصلت النار إلى عنان السماء من شدة اشتعالها، وجاء في بعض الآثار أنه كانت المرأة منهم إن أصابها مرض تقول: لئن شفيت من مرضي لأجمعن حطباً لنار إبراهيم فالكل اجتمع عليه.
ولكن متى كان يعرف الحق بكثرة أتباعه؟! قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
فجاءوا بإبراهيم، ومع شدة البلاء إلا أنه لم يتزعزع، ولم يتراجع أو يتباطأ، بل وثق بربه، وتوكل على خالقه.
قال ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم حينما ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما قالوا لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]).
دخل إبراهيم النار، والنار تحرق -ولا زالت تحرق إلى يومنا- فأتت على كل الحطب فأحرقته، ولكن للنار خالق، وهو الله رب العالمين سبحانه، يقول الشنقيطي في أضواء البيان: فالأسباب قد لا تأتي بمسبباتها؛ لأن الأسباب والمسببات لها خالق وهو الله عز وجل، فقال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، وفي الآية الأخرى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98].
فخرج من النار مرفوع الرأس، فلم يعتبروا أو يتعظوا بنجاة إبراهيم، فقد أصاب عقولهم وبصائرهم العمى والظلام.
وخرج إبراهيم من النار ليقيم الحجة على عباد الكواكب أيضاً، فأتى إلى ذلك الملك الظالم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ} أي: الظالم، {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].