لما سأل إبراهيم قومه: {مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً} [الشعراء:70 - 71]، ثم أرادوا أن يغيظوا إبراهيم فقالوا: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71].
والعبادة تعني التعلق القلبي، فالقوم لا يعبدون الأصنام طول الوقت وفي الليل والنهار، وإنما يعبدونها في بعض الأوقات، ولكن قلوبهم تتعلق بها، فالملازمة هنا ملازمة قلوب، ولذلك العبادة هي: أن يلازم قلبك حب ربك سبحانه، وأن يمتثل لأمره عز وجل.
وقال العلماء: هي منتهى الحب مع منتهى الذل.
وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وبعض أهل التصوف يقولون: نحن أصحاب عبادة الباطن.
فنقول لهم: العبادة تشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، فالصوم والصلاة والحج والزكاة أعمال ظاهرة، والرجاء والخوف والحب والإنابة والتوكل أعمال باطنة فهي تشمل الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة.
والداعية إذا اتصف بصفتين يرجى منه النفع: الصفة الأولى: كمال الحجة، وقوة البيان والمناظرة، وامتلاك الأدلة التي تقهر الخصم.
الصفة الثانية: سلامة القلب، بأن يكون صاحب قلب سليم، فلا يحمل في قلبه حقداً ولا حسداً، ولا يتتبع العثرات ولا الزلات، وصدق من قال: المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح.
فالأصل في شرعنا الستر.
وقد اتصف إبراهيم عليه السلام بهاتين الصفتين: كمال الحجة، وسلامة القلب، فأقام الحجة على كل من كان في عصره، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73]؟ فكانت إجابة هؤلاء الذين لم يروا النور، {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74].
فهم في تقليد أعمى، والتقليد مذموم؛ لأنه لا يستند إلى دليل ولا إلى برهان، ولذلك يقول ربنا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
فلا بد من برهان ودليل على الدعوى، ولا يقبل الكلام مهما كان قائله إلا إذا صاحبه دليل.
فلا بد من دليل يبين صدق ما تقول، فهؤلاء لما قال لهم إبراهيم: لم تعبدون هذه الأصنام؟ أجابوا بالتقليد، والتقليد مذموم، واليوم في قرانا وبعض مدننا يستدل البعض بالتقليد الأعمى، وكفى المقلد عاراً أن قوله هو قول عبدة الأصنام، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
فهم قالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:74 - 77]، وانظر إلى بلاغة إبراهيم وكمال حجته، فلم يقل: فإنهم عدو لكم، وإنما قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77]، وأنا أحب لكم ما أحب لنفسي، وأتمنى لكم ما أتمناه لنفسي، فهذه الأصنام عدو لي، وطالما أنه قد تبين لي الحق فأنا أدعوكم إلى ما أدعو إليه نفسي.
وهذا معناه الولاء والبراء، بأن تعادي كل مشرك، وتحب كل موحد، واسمع إلى قول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، فيا من توالون المشركين وتقربونهم وتحبونهم وتكرمونهم وتقدمونهم على الموحدين! اتقوا الله في دينكم، فالبغض في الله والحب في الله أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فاحذر أن تحمل في قلبك حباً لمشرك مهما كان، وإن كان أباك أو أخاك؛ لأن الميثاق الذي يربط بيننا وبينهم هو توحيد الله عز وجل.
وانظر إلى حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه كما في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، فقد (دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عمه أبي طالب وهو يحتضر، فقال له: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، وأبو جهل فوق رأسه يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فأعادها صلى الله عليه وسلم مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، فقال أبو طالب لابن أخيه صلى الله عليه وسلم: لولا أني أخشى أن تقول قريش: قالها جزعاً من الموت لأقررت بها عينك، ثم قال: هو على ملة عبد المطلب)، ومات على الشرك والكفر.
فسالت دموع النبي صلى الله عليه وسلم على خده وقال: (والله يا عم! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك).
فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَب