كان السلف رضي الله عنهم دائمي الخوف من الله عز وجل، فكانوا مع اجتهادهم في طاعة الله عز وجل في غاية الخوف منه عز وجل.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا صلى لم يسمع الناس من البكاء.
أي: أنها أشارت بأن لا يصلي أبو بكر بالناس لكثرة بكائه وتأسفه إذا صلى، مع أنه سبق الصحابة رضي الله عنهم إلى طاعة الله عز وجل، فهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40].
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء الأول فكان رضي الله عنه إذا صلى لا يكاد يسمع الناس من البكاء، وكان يقول: والذي نفسي بيده لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.
وهذا عمر رضي الله عنه يسمع قوله عز وجل: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8].
فيعود مريضاً إلى بيته ويعاد شهراً رضي الله عنه.
وكان رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء.
ولما طعن رضي الله عنه وهو الخليفة الثاني كان ولده عبد الله يرفع خده من الأرض ويضعه على حجره فيقول: ضع خدي على التراب عساه يرحمني، ويل أمي إن لم يغفر لي! ودخل عليه ابن عباس رضي الله عنه وقال: بشرى يا أمير المؤمنين! صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسنت صحبته، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم حكمت فعدلت، ثم شهادة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فيقول: أعد ما قلته، فيعيد ما قال، فيقول عمر رضي الله عنه: المغرور من غررتموه، المغرور من غررتموه، وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر.
فكيف بنا -عباد الله! - إذا كان عمر رضي الله عنه يقول: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر؟ وهذا عثمان رضي الله عنه يقف عند القبر ويبكي ويشتد بكاؤه ويقول: لو أنني بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيتهما أصير لأحببت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وهذا علي رضي الله عنه يروي ما رآه من الصحابة رضي الله عنهم فيقول: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، فوالله لكأني بالقوم باتوا غافلين، فما رئي رضي الله عنه ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم.
وهذا الحسن البصري يقول: رأيت أقواماً وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب، ولقد كان الواحد منهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطو له ثوب، ولم يوضع بينه وبين الأرض شيء، ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، ينادون ربهم في فكاك رقابهم، فإذا فعلوا حسنة تعبوا في شكرها، ورجوا الله أن يقبلها منهم، وإذا فعلوا سيئة أحزنتهم، ورجوا الله أن يغفرها لهم، فوالله ما سلموا من الذنوب، ولولا مغفرة الله ما نجوا، فرحمة الله عليهم ورضوانه.
وصلى ابن أبي أوفى قاضي البصرة بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما بلغ قوله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10]، أخذته شهقة فمات.
فهم سمعوا القرآن بقلوب واعية، وآذان مصغية، فأحدث فيهم الخوف من الله عز وجل، فمنهم من مات من سماع آية، ومنهم من كان يعوده الناس كأنه مريض، ومنهم من كان يشتد بكاؤه.
ونحن غلبت علينا الغفلة، فجمعنا بين معصية الله عز وجل وبين الأمن من مكره عز وجل، وهذا والله علامة الشقاء، أن يجمع العبد بين معصية الله عز وجل وبين الأمن من مكره، فقد كان السلف رضي الله عنهم يجمعون بين الخوف من الله عز وجل وبين الاجتهاد في طاعته، فإذا عرف العبد ربه عز وجل وعرف أسماءه وصفاته وتعرف على ربوبيته عز وجل وإلهيته، وعلم خطر الآخرة وأهوالها وعلم سيئات أعماله وضعفه وعجزه وذنوبه وعيوبه فإنه يخاف من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، وهذا لما بلغه: أن ثلاثة من الصحابة الكرام ذهبوا إلى بيوته صلى الله عليه وآله وسلم وسألوا عن عبادته،