بعض الفوائد والآثار الإيمانية في القصة: يقول ابن كثير: قد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه: أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14].
وهذا القول يجب والمصير إليه حتى يدل الدليل على أن الظاهر غير مراد، فالظاهر أن الله عز وجل هو الذي أرسلهم: {إِذْ أَرْسَلْنَا} [يس:14]، {فَعَزَّزْنَا} [يس:14]، فلم يكن المسيح هو الذي أرسلهم، لأن ظاهر القرآن خلاف ذلك.
إلى أن قالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:16 - 17]، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله تعالى أعلم.
ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15]؛ لأن هذا الإطلاق يكون على الرسل الذين من عند الله، فلو أن المسيح أرسلهم لكان من الطبيعي أن يرسل بشراً، يعني: لا يستطيع المسيح أن يرسل ملائكة، فكلهم يعتقد على أنهم بشر فهذا يدل على أنهم كانوا رسلاً من الله عز وجل، ولكنهم كذبوا كما كذب كثير من الناس بالرسل؛ لأنهم بشر وليسوا بملائكة.
الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية، وذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزال التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين.
ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43].
فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية كما أطلق ذلك غير واحد من السلف.
أيضاً: أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت؛ لأنه تكون مدن كثيرة بنفس الاسم كما أن اسم الإسكندرية يطلق على أكثر من مدينة، وأيضاً حلوان، يعني: هناك أكثر من مدينة بهذا الاسم.
فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يقول القرطبي في قوله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، يقول في معنى تمنيه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته.
والثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.
قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً، وفي هذه آية تنبيه عظيم ودلالة على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام.
يعني: كان هؤلاء كفرة وعبدة أصنام وقتلوه ومع ذلك تمنى لهم الخير، فهذا غاية الإحسان، فالإنسان يحسن إلى من أساء إليه.
قال الرازي في قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]: ولما قال: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القيوم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع.
وفيه لطائف أخرى: قوله: ((وَمَا لِيَ)) أي: وما لي مانع من جانبي، إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع، ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال فيه حكمة أخرى.
لطيفة ثانية: وهي أنه لو قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: ((وَمَا لِيَ))؛ لأنه لما قال: ((وما لي لا أعبد))، وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد؛ لأنه أعلم بحال نفسه، فهو يبين عدم المانع، وأما