هذا عمر بن عبد العزيز ولي الخلافة سنتين وبضعة أشهر فغير وجه الأرض؛ لأنه عزم على الرشد منذ تولى الخلافة، فلما فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك قربت له مراكب الخلافة والموكب من أجل أن يرجع به، فقال: ما هذا؟ فقيل له: مراكب الخلافة، فقال لهم: نحوها عني، ائتوني ببغلتي.
فركب بغلته.
ولما أرادوا أن يمشوا من أمامه ومن خلفه قال: إنما أنا رجل من المسلمين، تنحوا عني، ثم أراد أن يقسم المظالم، وكان قد دخل في القائلة وكان قد سهر مع مرض سليمان وشغل بدفنه، فأراد أن يقسم المظالم فقال: أبقى إلى الظهر وأقسم المظالم بعد صلاة الظهر، فلما كان في وقت القائلة دخل عليه ولده عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وابنه هذا قيل فيه: لو عاش هذا الرجل لكان خيراً من أبيه، فقال له عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: لماذا لا ترد المظالم؟ فقال: إذا صليت الظهر رددت المظالم.
فقال: وكيف لك أن تعيش إلى صلاة الظهر؟ وقال له: وإن عشت إلى صلاة الظهر فكيف لك أن تبقى نيتك.
أي: أن العبد إذا أراد خيراً فينبغي عليه أن يبادر بالخير؛ لأنه قد يحال بينه وبينه، أو يفقد العزيمة على الرشد ويفقد النية على الطاعة فيفقد الخير؛ فالتأني في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة، فينبغي على العبد أن يسارع ويبادر.
فنادى: الصلاة جامعة، ورد المظالم في وقت القيلولة وقبل صلاة الظهر، فاستقام على طاعة الله عز وجل وزهد في الدنيا وأقبل على الآخرة، وكان قلبه يمتلئ بالخوف من الله عز وجل، لم يرغب في أموال الرعية، ولم يفتح الحسابات في البنوك، وفي مرض وفاته دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ابن عمه فقال لأخته فاطمة بنت عبد الملك -وهي زوجة عمر -: غيروا قميص أمير المؤمنين.
فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم أتى مسلمة في اليوم التالي فقال: ألم آمركم أن تغيروا قميص أمير المؤمنين؟! فقالت: والله! ما له قميص غيره! ينطبق عليه قول القائل: قوم إذا غسلوا الثياب لبسوا البيوت وزرروا الأبواب طلب غلام لـ عمر بن عبد العزيز من مولاته فاطمة بنت عبد الملك أن تطعمه، فأطعمته عدساً، ثم في اليوم التالي طلب أن تطعمه فأطعمته عدساً، فقال: كل يوم عدس؟ فقالت له: هذا طعام مولاك أمير المؤمنين! بلغ عمر بن عبد العزيز أن أحد أولاده اشترى فصاً بألف درهم من أجل أن يجعله خاتماً، فأرسل إليه عمر يقول له: عزمت عليك لما بعت هذا الفص واشتريت فصاً بدرهم وكتبت عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
في السلف أسوة وقدوة في العزيمة على الرشد، والعزيمة على طاعة الله عز وجل والاستمرار على طاعة الله عز وجل، فمهما عزم العبد على الاستمرار على طاعة الله عز وجل أتته الأمداد من الله عز وجل، وأعانه الله عز وجل.