إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
قال عز وجل مخبراً عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]: أي بمهارتي وذكائي وبجدي واجتهادي: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:78 - 79].
خرج في تجمله وفي زينته وفي موكبه، فأعجب هذا المنظر أهل الدنيا الذين لا يعرفون الله عز وجل، والذين لا يعرفون الدار الآخرة، الذين يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، ولا يدرون كيف وصل هذا المال إلى هذا الشخص، فقد يصل إليه بالبغي والعدوان، وقد يكون هذا المال من ظلم الناس وسرقة أموالهم، فكيف يغتر المؤمن بالدنيا عباد الله، (ما الدنيا في الآخرة كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)، كم يعيش العبد في الدنيا؟ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
وقال عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114].
وقالوا: هي عشية أو ضحاها، فالدنيا ساعة، بل لا تساوي ساعة من ساعات يوم القيامة، فكيف بالآخرة؟! خلود في النعيم المقيم، أو العذاب الأليم.
فالمؤمنون -عباد الله- لا يغترون بزينة الدنيا، ولا يغترون بزخرفها، وإنما يغتر بذلك من بخس حظه من العلم النافع، والعمل الصالح: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
مقاييس مختلة عباد الله، فالعبد المؤمن لا يحسد أهل الدنيا على دنياهم؛ لأن الدنيا تزول عن قليل عباد الله، فمن أراد أن يحسد فعليه أن يحسد أهل العلم النافع، وعليه أن يحسد أهل العمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
وقال بعضهم: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا، فنافسه في الدين.
وقال بعضهم: إذا استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله عز وجل فافعل، قال عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فإذا ذكر الله عز وجل الآخرة، شرع لنا التنافس والتسابق، فيها، قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21].
وإذا ذكر الله عز وجل الدنيا والسعي على المعاش قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
فالناس يتسابقون ويتسارعون إلى الدنيا، ولكنهم لا يتسابقون ويتسارعون إلى الآخرة، ولكن أهل العلم النافع -عباد الله- هم الذين يعلمون صفة الدنيا وزوالها، وأنها كقطعة الثلج رخيصة الثمن، سريعة الذوبان، والآخرة جوهرة غالية الثمن ومع ذلك لا تزول، فهم يتسابقون إلى الآخرة، ويتسارعون في نيل درجاتها.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].
أي: لا يلقى الآخرة ولا يلقى ثواب الله عز وجل إلا الصابرون، أو لا يعلم هذا العلم ولا يفهم هذا الفهم ولا يلقى ذلك إلا الصابرون الذين صبروا على طاعة الله عز وجل، وصبروا عن معصية الله عز وجل، وصبروا على الأقدار التي تخالف هوى نفوسهم، فهم لا يغترون بالدون، ولا يبيعون الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون.
فالمؤمنون لا ينافسون على زينة الدنيا وزخرفها، ولكنهم ينافسون على النعيم المقيم، ومجاورة رب العالمين، فلا يغترون بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطان: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِه