يخاف العبد من ستة أمور: الأول: يخاف العبد من ربه ألا يقبل منه عملاً، فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل في ملكه سبحانه حتى إن أهل البادية يقولون: إن الوحيد الذي لا يمنع من شيء هو الله؛ لأن كل منا مقيد بحدود يتحرك فيها فحسب، لكن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولذا ينبغي أن تخاف من الله أن يرد عليك عملك؛ لأن العمل قد لا يخلو من علة من عجب أو رياء، أو لا يوجد فيه إخلاص، أو لا يوجد فيه نية صادقة، أو يتخلله قليل من الكبر.
ولذلك هناك مراحل للعمل صعبة جداً، فإن من دلائل خوفك أن تكون مرعوباً وأنت تصلي: يا ترى أتقبل الصلاة أم لا؟ فتخرج باكياً، وهكذا سائر الطاعات والقرب قال تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60].
الثاني: أن تخاف من الملائكة أن تكتب عليك سيئات لم تستغفر منها؛ لأنني يمكن أن أتذكر السيئات التي عملتها قبل ساعة أو ساعتين وربما قبل يوم أو يومين، أو قبل شهر على مشقة! لكن أن أتذكر سيئات قبل عشر سنين، أو خمس عشرة سنة، أو قبل عشرين سنة!! فهذا قد يكون مستحيلاً، ولكن هل نسي رب العباد سيئاتنا؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، كما أن الله عز وجل جعل علينا شهوداً عشرة منها: الجوارح والأرض والسماء والليل والنهار والملائكة، وملك الحسنات وملك السيئات، ولذا عندما يتوب الله عز وجل على العبد سوف ينسى الحفظة؛ لأن الحفظة هم الذين يكتبون أعمال العباد، وينسي الأرض التي عملت عليها المعصية، وينسي الجديدين: الليل والنهار.
إذاً: فالله يُنسي كل من يستطيع أن يشهد عليك، وبقي أن يشهد عليك خير الشاهدين، وهو أرحم الرحمين، وفي الحديث: (ما من عبد إلا ويقربه الله منه يوم القيامة، ثم يضع عليه كنفه -أي: ستره- ويذكر العبد ببعض غدراته في الدنيا، -عملت كذا وكذا وكذا في يوم كذا وكذا-، فيقول العبد: يا رب ألم تغفر لي؟).
والرجل في الدنيا إن كان مظلوماً فإن الله سوف يبرئه، وإن لم يبرئه في الدنيا فسوف يبرئه يوم القيامة، فيوقفه على رءوس الأشهاد فيقول: خذ من الظالمين الذين ظلموك حتى ترضى، فيقول العبد: أنا لن أرضى حتى آخذ كل حسناتهم وأعطيهم كل سيئاتي، فيقول: لك ما تشاء، وأفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة كظمة غيظ يتجرعها المؤمن وهو قادر على إنفاذها، فالمؤمن يوقن بانتصار الله له، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وأفوض أمري إلى الله، قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، فطالما أنني أمشي وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يهمني كيد كائد، أو حسد حاسد.
الثالث: أن يخاف من سوء الخاتمة، وسوء الخاتمة يأتي من شيء وحيدن هو إدمان الذنوب، فالناس الذين لا يعملون خيراً في الدنيا، وهم طوال حياتهم يؤذون أنفسهم ويؤذون غيرهم، وجل عملهم إدخال النكد والحزن على بيوت المسلمين، فهؤلاء يخاف عليهم من سوء الخاتمة.
يذكر أنه كان هناك شخص أيام أبي حامد الغزالي دعي إليه الإمام ليلقنه الشهادة، وكان الرجل يعالج سكرات الموت، فذهب إليه الإمام الغزالي وأخذ يقول له: قل لا إله إلا الله، فيقول الرجل: شاه مات شاه مات؟ فلم يفهم أبو حامد الغزالي معنى قوله: شاه مات، -والشاه: في لعبة الشطرنج- فسأل: ماذا كان يعمل هذا الرجل؟ قالوا: إنه كان طول وقته يلعب الشطرنج.
وامرأة أخرى يذكر أنها قبل وفاتها بثلاثة أيام قالت لمن حولها: ائتوا بطبل، فظلوا يطبلون لها؛ لأنها كانت من أهل اللهو والغناء، فخرجت روحها على أنغام الطبلة.
هذا من سابقات الأعمال.
وفي الجهة المقابلة لسوء الخاتمة حسن الخاتمة، فهذا عامر عثمان رحمه الله الذي علم كل المقرئين في مصر، كان شيخ المقارئ المصرية، وكان مشرفاً على طباعة المصحف، عمر ثمانين سنة، وكان كل من يتتلمذ على يديه يكون له شأن، وكان طوال حياته ليس في لسانه إلا كتاب الله، وأنت تجلس معه وهو يقرأ، ويمشي في الطريق وهو يقرأ، وكان يجلس ليعلم، فلما بلغ من العمر (82) سنة كان صوت الحبال الصوتية قد تأثر لا يتضح كلامه، وهو في المستشفى المرضي، وكان الذين هم في الحجرات المجاورة يشتكون من شدة صوته وهو يقرأ القرآن، ولما دخلوا حجرته وجدوا الرجل وبأعلى صوته يرتل كتاب الله مبتدأ بالفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران، فأرادوا إيقاف الرجل وتهدئته، وهو فاقد الوعي وظل حاله هكذا يومين متواصلين حتى أنهى سورة الناس، ثم نطق بالشهادتين وفاضت روحه إلى بارئها.
الرابع: أن تكون على خوف من هجوم ملك الموت عليك فجأة، وقد ينزل عليك فجأة أو بعد إنذار، ولذلك عندما بعث ملك الموت إلى سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب! أترسل لي ملك الموت قبل أن ترسل إلي وتنذرني، قال: أرسلت إليك يا موسى! قال: وما أرسلت؟ قال: شاب شعرك بعد سواده، ووهن عظمك بعد قوته، واحدودب ظهرك بعد استقامته، أليست تلك رسل؟ ولذا عندما يكون هنالك رجل كبير أو امرأة كبيرة في العائلة ويكون كلامهم غير متزن فإنه يخشى عليه، ولذا قيل: من بلغ الأربعين من عمره ولم يغلب خيره شره فليتجهز للنعش؛ لأن الشخص عندما يبلغ الأربعين ينتكس خلقه، ولذا ينبغي أن يكون دعاءه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19]، ثم إنه لا يفهم من ذلك أن الذي بلغ الأربعين فقط أو الذي هو أقل من الأربعين لا عليه ألا يكون خائفاً، لا، أو أن الموت لا يعرف إلا كبير السن، أو لا يعرف إلا المريض فقط، لا ليس الأمر كذلك، فالصغير يموت، والشباب يموت، وصحيح البدن يموت، والكل يموتون، ولذا ينبغي على كل واحد منا أن يخاف من هجوم ملك الموت عليه.
الخامس: أن أخاف فأبحث في أموالي لئلا يكون فيها حرام، ولئلا يكون فيها مال مغتصب، أو يكون فيها مال ملت أنا عن الحق فيه وأكلته بدون وجه حق، وهنا لابد من مسألة التفتيش.
السادس: أن أخاف ألا يشفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأعرف أنه سيشفع لي من كثرة الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام.
فهذه مخاوف ستة إذا عاش العبد في حيطانها فعلاً فلا يجمع الله عليه خوفاً ثانياً يوم القيامة.
وإذا كان خوف العبد لابد أن يكون في هذا الإطار، فإنه إذا قرن بالعلم تحول الخوف إلى خشية، والخشية تتحول إلى رهبة، والرهبة تتحول إلى رغبة؛ لأن الرهبة: هي الفرار مما تخاف منه، والرغبة: هي سريان القلب وجريانه نحو المعروف، فطالما أحببت ربك فأنت تسرع إلى مرضاته ليل نهار، والله عز وجل يحب الذي يحب الصلاة، ويحب الجماعة، ويحب صلة الرحم، ويحب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، ويحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب الخائفين، ويحب أهل الخشية، ويحب أهل الرفق، ويحب أهل العفة وغيرها من الفضائل، فأنت تصنع ما يحبه رب العباد سبحانه.
كما ينبغي التنبيه على نقطة مهمة جداً، ألا وهي: أن نخاف أن نكون ظالمين لأحد من العباد، وهنا ينبغي أن يقف المرء ويسأل نفسه: يا ترى من الذي ظلمته؟ الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، هل ظلمت أولادي؟ أو ظلمت أبي؟ أو ظلمت أمي؟ أو ظلمت جاري؟ أو ظلمت مديري في العمل؟ أو ظلمت العمال الذين هم تحت يدي؟ أو ظلمت الموظفين الذين أنا رئيس عليهم؟ وهكذا.
فإن وجد أنه قد ظلم أحداً سأل نفسه: ما الذي ينبغي أن أعمله حتى أستطيع أن أستسمحه في الدنيا، لكيلا يطالبني بحسنات يوم القيامة؛ وما يدريني لعلي أكون يوم القيامة محتاجاً لحسنة واحدة، فلا أجد من يعطيني إياها.