أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فإن من مراتب الهداية الخوف، وقد أشرنا إليه كثيراً من قبل، وهنا سنتحدث عن مسألة الخوف مضيفين إليه معنيين جديدين، ألا وهما: الخشية والرهبة، مبينين الفرق بين الخوف والخشية والرهبة، وهل هي ثلاثة معان لشيء واحد -أي: مترادفة-، أم أنها مرتبة، أو متباينة، أو متصاعدة؟ من أجل أن نوضح معنى الخوف ومعنى الخشية سنضرب هذا المثال: لو حصل زلزال فلا شك أن الناس عندما يقع سيهربون من المكان مستخدمين كافة الوسائل السريعة الممكنة للهرب: من مصاعد وغيرها، أو يفرون إلى الدور الأرضي؛ باعتباره مكاناً آمناً من خطر الزلزال.
فالحاصل في هذه الحالة يسمى: خوفاً، ثم بعد ذلك لو أن الزلزال أخذ يتصاعد، وقد وقف الفارون في مكان بعيد عن مرمى سقوط الحجارة أو البنيان أو الطوب على الناس، فهاتان حركتان متباينتان مختلفتان، فالحركة الأولى هي التي نستطيع أن نسميها: الخوف، وهي مرحلة البعد أو الهرب، والحركة الثانية وهي بعد أن يكون المرء في مكان بعيد عن مرمى الحجارة وفي مأمن من شرها، وهي التي نستطيع أن نسميها: الخشية.
فالخوف أن يوقف العبد نفسه عند محارم الله، تاركاً لها، مجافياً لطرقها ومسالكها، لكن أن يحصن العبد نفسه بالفقه والعلم، أو بمجالس العلم، أو بالأخوة الصادقة وغيرها من أعمال البر التي تبعد عن الغواية فحالته حينها هي الخشية، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأن العالم يخاف بعلم، يخاف من الذي علمه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أقربكم إلى ربي ولكني أشدكم خشية)، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أشدنا خشية؛ لأنه أكثرنا علماً، ولذا كلما تعلم الإنسان كلما زادت خشيته.
والخوف إذا زاد عند العبد ينقلب إلى رهبة، والرهبة توصل إلى الرغبة.
تقدم أن الخوف: هو أن العبد لا يدخل فيما حرم الله، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فمثلاً: هناك أشياء تكون محمية تحميها الحكومة أو غيرها، فقد تكون تعمل بسيارتك أو بالدراجة النارية أو بالعجلة فيقال لك: لا تدخل هذا الشارع؛ لأن الحكومة لها شوارع والشعب له شوارع، يعني: هذا الشارع ممنوع الدخول فيه.
فإذا كان لكل شخص فقير حمى فما بالك بحمى الله؟ (ألا وإن لكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه)، أي: لا تدخل محارم الله، فما دام أن هذا حرام حرمه الله عز وجل إذاً: فأنا أخاف من الدخول في الحرام، ولذلك جاء في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة).
وعندما يتكلم العلماء عن الآخرة وما في الآخرة، وعن ذكرها في القرآن، فالقرآن مثلاً كما تكلم الله فيه عن الرحمة تكلم فيه عن العذاب كذلك، والقرآن ذكرت فيه الدنيا مائة وثمانية وخمسين مرة والآخرة ذكرت مائة وثمانية وخمسين مرة، وفيه أن آيات الرحمة بمقدار آيات العذاب، فلا تكاد تقرأ آية في القرآن فيها ذكر للعذاب إلا وفيها ذكر الرحمة، وغيرها من الحكم والدلائل التي يتغافل عنها من يريدون القرآن لتصدير الحفلات والمهرجانات، فلو عرض القرآن على أحدهم لصار هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم صدق الله العظيم، هذا هو القرآن الذي يريدونه، لكن الله يقول: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، أي أن الله أنزله مثاني على رسول الله، يتكلم عن الرحمة، ويتكلم عن العذاب، ويتكلم عن الخير، ويتكلم عن الشر، يتكلم عن الإيمان، ويتكلم عن الكفر، ويتكلم عن الاستقامة، ويتكلم عن الانحراف، ويتكلم عن الطغاة، ويتكلم عن أهل العدل، وهكذا.