أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد لعل من حسن الطالع وحسن الأمر أن يكون حديثنا في الوعد الحق في هذا الشهر الكريم ونحن في العشر الأواخر، وهذه كلها مبشرات، فرمضان بالنسبة للشهور الباقية من السنة كيوسف بالنسبة لإخوته الأحد عشر، فإذا كانت الشهور الأحد عشر هي إخوة يوسف فرمضان هو يوسف لأنه كان أسيراً عند أبيه يعقوب -ولله المثل الأعلى- فرمضان أسير عند خالقنا وأسير عند المسلمين.
ويعقوب لم يرتد إليه بصره لما رأى قمصان أبنائه الأحد عشر، وإنما ارتد إليه بصره لما شم قميص يوسف، ولما وجد ريح قميصه قال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] فالقلب يشم ريح التوبة وعبير الاستقامة وعبير حسن الخاتمة في هذه الأيام الطيبة مع ريح رمضان ومع قميص رمضان ومع جلباب رمضان.
وموضوع حسن الخاتمة نبحث عنه كلنا، ويجب أن نبحث عنه كلنا، وأنت لما تزرع شجرة عنب لا تظن أنك تجني منها الشوك، فكذلك لا تظن أنك تظلم الناس ثم تموت بحسن خاتمة، ولا تظن أنك تفتري على الناس، وتحقر من شأنهم، وتتكبر عليهم، وتتألى عليهم، أو تصيّر نفسك من طينة أو من عجينة غير الطينة والعجينة التي خلق منها الناس، وتظن أن هناك حسن خاتمة تنتظرك! والرسول صلى الله عليه وسلم هيأه تفوقه أن يكون واحداً فوق الجميع، فعاش بتواضعه واحداً بين الجميع، وهكذا يجب أن نكون، أي: يجب أن يكون الشخص محمدي النزعة، محمدي السلوك، محمدي التصرف.
وحسن الخاتمة له محاور وأسباب، وقد يتعجب الإنسان ويقول: هل لي دخل في موضوع حسن الخاتمة؟ فهو شيء مقدر لا دخل لي فيه.
فهذا ما يقوله البعض، ولكن نحن طالما نبحث وندقق ونفهم ديننا حق الفهم، فنقول: الأمر كما قال جعفر الصادق: أراد بنا وأراد منا، أراد الله بنا قضاءً وقدراً، وأراد منا عملاً، فما أراده بنا -القضاء والقدر- واراه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا.
فبهذا تتضح الصورة.
فأنا مسير في أمر لا أحاسب عليه، ومخير في كل أمر أحاسب عليه، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وهل سوء الخاتمة للإنسان دخل فيه؟ نعم، هي من فعل العبد، وله كل الدخل في حسنها أو قبحها، فحسن الخاتمة من صنع الإنسان وفعله؛ لأنه كما يزرع فسوف يحصد.
أما كونه كتب عليه رزقه وأجله وشقي أم سعيد، فهذا الشقاء وتلك السعادة في علم الله؛ لأنه لا يقع في كون الله إلا ما يعلم رب العباد، وهو العليم الخبير، ولكن لم يكتب على الكافر كفراً، وإنما الكافر هو الذي كتب ذلك على نفسه بعمله.
وأما قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فالمعنى: أن من شاء من البشر أن يهتدي هداه الله، ومن شاء الضلالة فليمدد له الرحمان مدا، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] إذاً فالهداية بدايتها من العبد، ومن يطرق الباب يفتح له.
ومن هذا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فإنهم طرقوا باب الهداية، وأناخوا رواحلهم على باب الله ففُتح لهم، وباب الله ليس عليه باب ولا بواب، أي: أن باب الله دائماً مفتوح لا يغلق، وكلمة باب تعني له رتاج، فهذا هو تعريف الباب، ولكن باب الله باب مجازي، فلا باب ولا بواب، يعني: لا يوجد ملك يقف على الباب ويقول: يدخل فلان أو لا يدخل، وليس هناك دعوة تصعد في الثانية ليلاً فيقال لها: ارجعي الملائكة الآن نائمون! وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، فالمراد: ننزله بقدر لكن ليس من الباب، وإنما لعلم الله أن هذا يصلح في هذا الوقت لا في هذا الوقت، وبهذه الطريقة وليس بهذه الطريقة، وبهذه الكمية لا بهذه الكمية.