إنَّمَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُمْكِنَ الْوُقُوعِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ وَمَحَلُّهُ عِنْدَهُ خُيِّرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ أَوْ لَا أَلَا يَرَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ أَوْ تَحْوِيلِ الْحَجَرِ ذَهَبًا مُنْعَقِدَةٌ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا مَحَلُّهُ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ لِأَنَّ مَحَلَّ الشَّيْءِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِحُكْمِهِ وَحُكْمُ الْيَمِينِ الْبِرُّ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ فَلَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا كَيَمِينِ الْغَمُوسِ (فَفِي) قَوْلِهِ (وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَن مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ) أَوْ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَكَذَا (وَلَا مَاءَ فِيهِ أَوْ كَانَ) فِيهِ مَاءٌ (فَصَبَّ) الْمَاءَ قَبْلَ اللَّيْلِ (أَوْ أَطْلَقَ) الْحَالِفُ وَلَمْ يَقُلْ الْيَوْمَ (وَلَا مَاءَ فِيهِ، لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَلِفِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا وَهُوَ إمْكَانُ الْبِرِّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ لِصِحَّةِ الْحَلِفِ عِنْدَهُ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ وَصُبَّ، حَنِثَ) لِأَنَّ الْبِرَّ وَجَبَ عَلَيْهِ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّكَلُّمِ لَكِنْ مُوَسَّعًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ فِي عُمْرِهِ وَالْبِرُّ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ بِأَنْ صَبَّ الْمَاءَ عَقِيبَ الْيَمِينِ بِلَا تَرَاخٍ لَا تَنْعَقِدُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ عَلَى مَاءٍ يُوجِدُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُوزِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ قُلْنَا ذَلِكَ الْمَاءُ لَيْسَ الْمَاءَ الَّذِي انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْحَلِفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا شَرْطُ انْعِقَادِ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْحَلِفِ احْتِمَالُ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَلَا احْتِمَالَ هُنَا لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبِرِّ.
(وَفِي لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا حَنِثَ لِلْحَالِ) .
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ لِاسْتِحَالَةِ الْبِرِّ عَادَةً وَلَنَا أَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَتَّى وَقَعَ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] الْآيَةَ وَكَذَا قَلْبُ الْحَجَرِ ذَهَبًا مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ لِبَعْضِ الْأَخْبَارِ وَإِذَا أَمْكَنَ الْبِرُّ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ، لِعَجْزِهِ عَنْ تَحْقِيقِ الْبِرِّ، ظَاهِرٌ وَإِذًا كَافٍ لِلْحِنْثِ (كَذَا لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا بِمَوْتِهِ) إذْ يُرَادُ حِينَئِذٍ قَتْلُهُ بَعْدَ إحْيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُمْكِنٌ فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَوْتِهِ فَالْمُرَادُ الْقَتْلُ الْمُتَعَارَفُ وَلَمَّا كَانَ مَيِّتًا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا حَقِيقَةً
(شَهَرَ عَلَى إنْسَانٍ سَيْفًا وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ فَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ) قَالَ قَتَلَ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ لِأَنَّ السَّيْفَ آلَةٌ لَهُ (وَلَوْ شَهَرَ عَصًا وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ فَعَلَى) أَيْ الْحَلِفُ يَقَعُ عَلَى (إيلَامِهِ) لَا حَقِيقَةِ الْقَتْلِ فَإِنْ آلَمَ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ لِأَنَّ الْعَصَا لَيْسَ آلَةً لِلْقَتْلِ بَلْ لِلْإِيلَامِ بِالضَّرْبِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ سُلَيْمَانَ (تَحْلِيفُ الْوَالِي لَيُعْلِمَهُ كُلَّ دَاعِرٍ أَتَى مُقَيَّدٌ بِحَالِ وِلَايَتِهِ) يَعْنِي إذَا حَلَّفَ الْوَالِي رَجُلًا لَهُ شُعُورٌ عَلَى أَهْلِ الْفَسَادِ لَيُعْلِمَهُ كُلَّ مُفْسِدٍ يَجِيءُ فِي الْبَلْدَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فِيمَا فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ) أَيْ حَقِيقَةً لَا عَادَةً (قَوْلُهُ أَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَصُبَّ) قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ انْصَبَّ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ (قَوْلُهُ لَمْ يَحْنَثْ) جَوَابُ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَشْمَلُ مَا إذَا عَلِمَ الْحَالِفُ أَنَّ الْكُوزَ فِيهِ مَاءٌ وَمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَالْبَحْرِ (قَوْلُهُ وَفِي لِيَصْعَدَن السَّمَاءَ. . . إلَخْ) أَطْلَقَهُ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا قَيَّدَ الصُّعُودَ وَقَلْبَ الْحَجَرِ بِمُدَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ قَبْلَ مُضِيِّهَا حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّهَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَقَيَّدَ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى التَّرْكِ بِأَنْ قَالَ إنْ تَرَكْتَ مَسَّ السَّمَاءِ فَعَبْدِي حُرٌّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ كَذَا فِي الْبَحْرِ (قَوْلُهُ كَذَا لِيَقْتُلَنَّ فُلَانًا عَالِمًا بِمَوْتِهِ) يُخَالِفُ الْحَلِفَ عَلَى ضَرْبِهِ لِمَا قَالَ قَاضِي خَانْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فُلَانًا الْيَوْمَ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ إنْ عَلِمَ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْحَلِفِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُخْتَصَرِ الظَّهِيرِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَقَاضِي خَانْ. اهـ.
(قَوْلُهُ شَهَرَ عَلَى إنْسَانٍ سَيْفًا وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنهُ فَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ) مِثْلُهُ مَا قَالَ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ لِأَضْرِبَنك بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ فَهُوَ عَلَى الْمَوْتِ حَقِيقَةً اهـ.
وَكَذَا فِي الْبُرْهَانِ وَقَاضِي خَانْ وَكَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ قَالَ لَأَضْرِبَنهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَمُوتَ فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا بِالضَّرْبِ حَتَّى يَمُوتَ اهـ.
وَلَكِنْ قَالَ الْكَمَالُ لِأَضْرِبَنك حَتَّى أَقْتُلَك فَهُوَ عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَعِنْدِي أَيْضًا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لِأَضْرِبَنك بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ وَلَأَضْرِبَنَّ وَلَدَك عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَنْشَقَّ نِصْفَيْنِ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ بِهِ الْأَرْضَ وَيَرْكُلَهُ فَقَطْ وَخِلَافُ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ اهـ.
وَالرَّكْلُ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ (قَوْلُهُ دَاعِرٌ) بِالدَّالِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هُوَ الْمُفْسِدُ (قَوْلُهُ تَقَيَّدَ بِحَالِ وِلَايَتِهِ) قَالَ الْكَمَالُ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ ثُمَّ إنَّ الْحَالِفَ لَوْ عَلِمَ بِالدَّاعِرِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُسْتَحْلِفُ أَوْ عُزِلَ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا بِالْيَأْسِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً فَيَحْنَثُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ اهـ.
وَلَوْ حَكَمَ بِانْعِقَادِ هَذِهِ لِلْفَوْرِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ لِزَجْرِهِ وَدَفْعِ شَرِّهِ فَالدَّاعِي يُوجِبُ التَّقْيِيدَ بِالْفَوْرِ أَيْ فَوْرُ عِلْمِهِ اهـ كَلَامُ الْكَمَالِ
(تَنْبِيهٌ) : تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْحَالِفِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَإِلَّا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُحَلِّفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ الظَّهِيرِيَّةِ