من المعلوم أنّ الذين ترجموا لعبد القاهر ذكروا أنّه شافعيّ المذهب (?)، ولكنّ مؤلّف (درج الدّرر) حنفيّ، يشهد على ذلك تقديمه آراء الحنفيّة الفقهيّة، واقتصاره عليها في أحيان كثيرة، وربّما ذكر اختلاف أبي حنيفة وصاحبيه، ويذكر أحيانا آراء الحنفيّة في مقابلة آراء الشّافعيّة مبيّنا كونها خلافا لهم، وربّما قال عند عرض آرائهم: «وعندنا». ومن الأمثلة على ذلك ذكره رأي أبي حنيفة في أنّ (الصّابئين) أهل كتاب، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصّابِئِينَ} [البقرة:62] وذكر مخالفة صاحبيه له وعدّهما (الصّابئين) عبدة الكواكب، واكتفاؤه بذلك (?). وفي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] بيّن حكم ترك السّعي بينهما بقوله: «والسّعي سنّة يجب بتركه الدّم عندنا، وعند الشافعيّ واجب يلزمه العود لها» (?). وفي قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] بيّن رأي الحنفيّة في النّفي المذكور في الآية بقوله: «والنّفي عندنا بالحبس حيث يستصوبه الإمام»، وتحدّث عن الصّلب فقال: «والصّلب بعد القتل»، ثمّ نقل عن أبي حنيفة «أنّه يصلب حيّا ثمّ يطعن في نحره» (?). وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ} [التوبة:60] قال: {وَالْمَساكِينِ:} أهل التّرحّم والرّأفة، وهم أسوأ حالا من الفقراء عندنا» (?)، وهذا الذي ذكره قول الحنفيّة.
وعبد القاهر الجرجانيّ بصري، وقد بلغ من عنايته بكتاب الإيضاح لأبي عليّ الفارسيّ، أحد أئمّة البصريّين، أن شرحه شرحا مبسوطا في نحو ثلاثين مجلدا وسمّاه (المغني)، ثمّ لخّص هذا الشّرح في كتابه (المقتصد في شرح الإيضاح)، واختصر (الإيضاح) في كتابه (الإيجاز) (?). أمّا مؤلّف (درج الدرر) فلم ينقل عن أبي عليّ إلا في موضع واحد من الجزء الذي حقّقته من الكتاب (?). وهو أكثر ميلا إلى الكوفيّين، فهو يعتدّ بآرائهم، ويقدّمها في كثير من الأحيان على آراء البصريّين، وقد يكتفي بها. وثمّة تفصيل أوفى عن مذهبه النّحويّ في الكلام على موقفه من الكوفيّين والبصريّين في الفصل الثّالث من هذه الدراسة.