ويعود جواد علي ليبين لنا كيف أن (كايتاني) وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا (معكوسا) في البحث يذكرنا بكثير من المختصين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطىء من أساسه إذ أنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك. فلقد كان كايتاني «ذا رأي وفكرة، وضع رأيه وكوّنه في السيرة قبل الشروع في تدوينها، فلما شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويها، وتمسّك بها كلها، ولا سيما ما يلائم رأيه، لم يبال بالخبر الضعيف، بل قواه وسنده وعدّه حجة، وبنى حكمه عليه. ومن يدري؟ فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها، لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إن ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث؟» (?) .

ومن المستشرقين أنفسهم من دفعهم جدّهم وموضوعيتهم- وهم ليسوا بالقليل- إلى نقد وتفنيد الأخطاء المنهجية التي مارسها رفاقهم في دراسة التاريخ عامة وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وإلى تعرية الدوافع التي تكمن وراء موقفهم هذا، سواء كانت محتشدة في الوعي أو منسربة في اللاشعور.. «لقد رأى (دينيه) أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يغشي على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمدا يتحدث بلهجة ألمانية، إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب. وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر. إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت) و (إسكندر ديماس)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015