(عصر الرسول) فهو يقول: «من العجيب أن يكون في القرآن آيات كثيرة فيها الكفاية لرسم صورة صادقة لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها قرائن وإشارات ودلالات عديدة تساعد على التعرف على نشأته وسيرته قبل البعثة، ثم يعمد بعض المسلمين بل بعض علمائهم إلى تجاوز ذلك إلى ما لا تساعد عليه نصوص القرآن، بل ما تتناقض معه. فإذا كنت ممن تسنى لهم أن يستمعوا قصة من هذه القصص التي تتلى في حفلات المولد، فقد سمعت ولا ريب نماذج من الغلوّ الذي يكاد يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم شخصية لاهوتية أو في نطاق اللاهوتية. ولقد وقع غير واحد من كتاب السيرة والشمائل وشراحها في هذا الغلوّ (وبخاصة ما يتعلق بالميلاد) دون أن يكون لذلك أصل من قرآن أو سند من حديث صحيح أو دعامة من منطق معقول. ويبدو أن غلاة المسلمين لم يكتفوا بالوقوف عند الإنسان الكامل في النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتجلى بالتميز في عظم الخلق وصفاء النفس وكبر القلب وقوة الإيمان، والمهمة العظمى التي اضطلع بها، ورأوا أنه لا بد أن يكون من لوازم نبوته واصطفائه أن تكون ثمة مقدمات وبشائر» (?) .
لكن أيا من المؤرخين السابقين، أو غيرهم من المؤرخين الجادّين، لم يقل إن الضرورة المنهجية الملحّة لرفض الإسرائيليات والقصص والخوارق تدعونا أن نقطع السيرة عن أية صلة لها بعالم الغيب (الميتافيزيقا) - كما يرغب دعاة التفسير المادي للتاريخ أن يكون- لأن معنى هذا بوضوح نكران لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتصاله عن طريق الوحي غير المرئي- بعالم (الغيب) في السماء، كما أنهم لم يقولوا- ولا أي من المؤرخين الجادين- أن رفض القصص والخوارق يدعونا بالضرورة إلى رفض الاعتقاد بأن الله سبحانه طمس على أعين المشركين الذين حاصروا دار الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل هجرته، سعيا وراء قتله، أو أنه صدّهم عن إلقاء القبض عليه وهو مختبىء وصاحبه في الغار، أو أنه أنزل ملائكته من السماء لتنصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في معركة بدر، ومعارك أخرى تلتها..
إن كثيرا من وقائع السيرة، وأخبارها أوضح من أن تتكلف فيها الشروح والتفاسير والتعليقات، ومن ثم فهي لن تحتاج إلا إلى قدر معقول من تنسيق المادة الأولية وترتيبها، قائم على منهج علمي في الانتقاء والاستبعاد، ليس كذلك