كل من أسلموا خلال هذه المدة: ثلاث أو أربع سنين، وكل ذخيرة الإسلام وعدته للمستقبل. وهي مدة طويلة كان من الممكن إسلام أضعاف أضعاف هذا العدد لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بالدعوة فيها جهارا، ولكنه لم يكن يومئذ قد كلّف وجوب الجهر بالإسلام وبالتبليغ إلا لمن وجد في قلبه ميلا للإسلام، ولهذا لم يتجاوز المسلمون يومئذ العدد المذكور القليل بالنسبة لسكان مكة- الذين كانوا عدة آلاف- والكثير في اتحاده وإيمانه وقوة عقيدته وتضحيته في سبيلها (?) .
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه بالتزام الحيطة والحذر والتخفي وعدم الإعلان عن الإسلام إلى أن يقضي الله أمره. فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا فرادى إلى الشعاب والبرية يصلون على حذر ولهم عيون ترى القادم لتنبيه المصلين عليه فلا يؤخذوا على غرة، ويظهر أمرهم للناس، وقد بقوا على ذلك طوال مدة الاستخفاء (?) . ويحدثنا ابن هشام كيف أن سعد بن أبي وقاص خرج يوما في نفر من المسلمين الأوائل إلى شعب من شعاب مكة، فإذا بجماعة من المشركين يظهرون عليهم، وهم يصلون فاستنكروا عملهم وعابوا عليهم ما يصنعون، وما لبث الطرفان أن دخلا في شجار عنيف واضطر سعد- يومئذ- أن يجرح رجلا من المشركين، فكان كما يقول ابن هشام «أول دم أهرق في الإسلام» (?) وكان سعيد ابن زيد يقول: استخفينا بالإسلام سنة، ما نصلي إلا في بيت مغلق أو شعب خال ينظر بعضنا لبعض (?) . وفي رواية للبلاذري أن النبي وأصحابه كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فصلوا، فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في إحدى شعاب مكة إذ هجم عليهما رجلان من المشركين «كانا فاحشين» فناقشوهما ورموهما بالحجارة، ساعة، حتى خرجا فانصرفا (?) .
هذان الحادثان من الاعتداء على المسلمين خلال صلاتهم في الشعاب، وأمثالهما وإن بدوا وكأنهما عبث من عبث الصبيان، لكنهما تركا أثرا في نفوس جهال مكة، وحمل الرسول على نصح المسلمين بالتخفي والتزام البيوت مدة من الزمن حتى تستقر الأحوال وتهدأ الأعصاب ودخل هو وجماعة من أصحابه بيت الأرقم بن أبي الأرقم وبقي فيه مختفيا مع جماعته لا يخرج إلى أن أذن الله له