الروايات والأحاديث والأبحاث عن هذه المساحات الواسعة زمانا ومكانا!! مما لا يتسع بحث خاص بالسيرة لمجرد الإشارة إليه (?) .
ومن ثم فإن كل ما يمكن أن يقال، إيجازا وتركيزا لهذا المدى الواسع، هو أن العالم كان قد فسد في القرن الذي ولد فيه الرسول، والإنسان- ثانية- كان قد ضاع.. الإنسان فردا والإنسان في جماعة.. حيثما التفتنا، أنى قلبنا وجوهنا في جهات العالم الأربع فلن نعثر إلا على الفساد والضياع. وابتداء بأعمق أعاميق النفس البشرية وانتهاء بالعالم في مداه الشامل، مرورا بالتجارب والممارسات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لا نجد إلّا السوس ينخر في البنيان، والعفن ينسرب عميقا في ضمائر الأشياء والتجارب والممارسات، لكي ما يلبث السوس والعفن أن يفسدا كل شيء ويدنسا كل حياة.
هكذا.. في كل ميدان، وفي أي اتجاه، لا نعثر إلا على الفساد والضياع..
إن العالم الذي بعث فيه محمد عالم في أمسّ الحاجة إلى منقذ، وهو يفسّر بوضعه الراهن ذاك لماذا جاء الرسول في ذلك العصر بالذات.. إن القرآن الكريم، تحدث فيما بعد، عن أبعاد الأزمة البشرية عندما قال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (?) !!
لقد جاءت هذه الآية بمثابة إنذار وبشارة في الوقت نفسه، إنذارا إلى أن هذا العفن الذي يغمر العالم إنما هو صنع أبائه أنفسهم، وأنهم يغرقون الآن إلى أذقانهم بما صنعوا!! وبشارة لكل الذين انشقوا على دنس العصر واستعلوا على عفنه وفساده، وآلوا على أنفسهم أن يتحملوا المسؤولية، وأن يسيروا وراء رسولهم بعيدا عن الحفرة التي كان العالم يختنق فيها، من أجل أن (يخرجوا) بالناس، من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، وتلك هي قمة الحرية التي بعث الرسول لكي يمنحها للإنسان، وغاية الدور الكبير الذي يفسّر مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم.