الأحداث الموثوقة التي انتزعناها من بين حشد من الأحداث والروايات الضعيفة والمكذوبة، لهي، فضلا عن كونها أسلوبا من أساليب العناية الإلهية في تربية الأنبياء والشهداء والقديسين، أشبه بالرموز المكثفة والدلالات العميقة على أبعاد الدور الذي سيلعبه هذا الإنسان.

إن تدفق الخير على مضارب القبيلة التي احتضنت محمدا طفلا، بعد أيام العسر والمجاعة والجفاف، توحي- فيما توحي- إلى أن مجاعة العالم كله، وجفاف الروح الإنسانية جميعا وعسر الحضارة البشرية في تمخضها الدائم، تنتظر من يعيد توجيهها وصياغتها من جديد فيحيل الجوع شبعا وريا، وجفاف الروح امتلاء وانطلاقا، وعسر الحركة الحضارية تدفقا وإبداعا.. وأن هذا الطفل الذي تفجرت بميلاده ينابيع الخير سيكون هذا الرجل.. وأنه قد آن الأوان ... وهذه الحادثة ستقال مرارا وتكرارا بعد أن يكبر الطفل ويفتح وعيه على الحياة، وستلعب دورها ولا ريب في صياغته النفسية وفي لفت الأنظار إلى تفرده وتميزه، والتمهيد لقبول الدور (الخاص) الذي سيلعبه بعد عدة عقود من السنين. ومن أجل مزيد من لفت النظر والتمهيد تجيء إشارات عدد من اليهود والنصارى إلى أن ظهور النبي الموعود قد حان وأن العصر الراهن بإرهاصاته إنما هو عصر النبوة الجديدة وهي إشارات الأديان السابقة جميعا، وإقرارها بصدق رسالة النبي الأخير التي أكدتها عهودهم القديمة والحديثة على السواء، ومن ثم تلعب دورها- هي الآخرى- في عملية لفت النظر والتمهيد للنبوة الجديدة كي لا تجيء فجأة دونما سوابق من إشارات وأحداث ذات دلالة وإرهاصات، وسواء على المستوى العربي الجاهلي أم على المستوى الديني اليهودي- النصراني، فإن هذه الإشارات قد جاءت وليس ثمة معذر لكل من يقول إن رسالة الرسول تنزلت مفاجأة دون مقدمات ولا تمهيد.

وأما حادثة شق الصدر، فهي ولا ريب مما يندّ عن مواضعات علمنا البشري في ميداني النفس والتشريح، لأنها- كأية تجربة أو حدث روحي- لا تخضع لمقاييس العقل والحسّ المحدودة، وكيف يخضع الكليّ المطلق للمقيد المحدود؟! يكفينا أن نلتقط منها رمزا أو دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد. يقول محمد الغزالي «لو كان الشر إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها، ولو كان الخير مادة يزود بها القلب كما تزود الطائرة بالوقود

طور بواسطة نورين ميديا © 2015