فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض والتمرد، فقد جاء تغرّبه وعزلته وانقطاعه إمدادا نفسيا باتجاه آخر، لكنه متمم، وبدونه لا يمكن لإنسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. إنه إمداد باتجاه الاندماج والاتصال، بمواجهة رفض الجاهلية والتمرد على قياداتها وأعرافها وسلطاتها.. اندماج بالكون على انفساحه.. بالعالم الجديد الذي جاء لكي ينقل البشرية إليه، بالنواميس التي سيبعث عما قريب كي يجعل الإنسان في كل مكان وزمان يعود إليها وينسجم في مساراتها المعجزة، مغادرا مواضعه المنحرفة الخاطئة التي ساقته إليها زعامات جائرة، وسلطات مستبدة وألوهيات زائفة، وأعراف وبيئات مليئة بالدنس والوحل والخطيئة، واتصال- عبر البحث والقلق والتقلب الطويل- بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون وتحرك الإنسان والخلائق في ساحاته الكبرى وفق خرائط غاية في الدقة والإتقان.. اتصال بالمصدر الوحيد للحيوان والأشياء، بالإرادة التي تنبثق عنها سائر الإرادات وتؤول إليها.. بالله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
كان محمد صلى الله عليه وسلم إذن يستكمل- دون أن يدري- بناءه النفسي واستعداداته التجريبية وخبراته التي بنتها السنون الطويلة والأعمال التي غطت كل المساحات.. كان يضع- بمشيئة الله- اللمسة الأخيرة الحاسمة، للإنسان الذي سيغدو نبيا عما قريب.. إن عزلة رسولنا وانقطاعه، واتساع مساحات هذه العزلة والانقطاع، عكسا إزاء طغيان الجاهلية، وطردا تجاه يوم الوحي، كانت بمثابة الإرهاص الأكبر والأخطر والأخير، في الوقت نفسه، إلى أن موعد القطاف قد حان، وأن هذه الشخصية التي ربتها عناية الله في مدى أربعين سنة، قد غدت على استعداد تام للتلقي، والاتصال المباشر بمبعوث الله في آخر حلقة من حلقات تعاليم السماوات للأرض!!
وإزاء هذا الهكيل المرئي من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، يقف عدد من الإشارات والأحداث، ملفتا الأنظار في ذلك الحين، وفي كل حين، إلى أن هذا الإنسان من بين كل الناس، قد اختير لأداء دور ما، لإنجاز عمل أو الانقلاب على وضع.. وأن هنالك عناية تفوق كل العنايات واهتماما يتعدى كل الاهتمامات تجاه هذا الإنسان بالذات تمهد له الطريق، وتسهم إسهاما غيبيا يندّ عن التحليل والتعليل في تكوينه النفسي الذي سيمكنه من أن يكون نبيا عما قريب.. وأن هذه