أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب في حل المشاكل التي تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورا كبيرا.. وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم فيمارس في أعقاب زواجه ذاك، كبرى التجارب الاجتماعية في حياة الإنسان، وينجح في التجربة، ومن وراء نجاحه ذاك تقف السيدة البرّة التي وضعها الله في طريق رسوله لكي تكون سنده النفسي

واليقيني الأول في السنين الصعبة الطويلة التي تطيش معها ألباب الثائرين الذين بعثوا لتغيير العالم والانقلاب على الأوضاع والمألوفات.

هكذا تبدو حياة رسولنا الكريم قبل مبعثه، سلسلة مترابطة الحلقات، منطقية التعاقب من التجارب والخبرات في شتى المساحات: عائلية ونفسية واقتصادية وحركية وحربية وسياسية ودينية واجتماعية. أما البعد الأخلاقي في حياة الرسول المديدة هذه فيتمثل واضحا نقيا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين اللاأخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدينة والصحراء: شربا للخمر واستمراء للزنى ولعبا للميسر وتصعيدا للربا وتهافتا على مال اليتيم ووأدا للبنات وظلما للذين لا يقدرون على ردّ الظلم، واستعبادا محزنا للذين لا يعرفون طعم الحرية.. ممارسات شتى لا يحصيها العدّ، كانت تجري على مسرح الجزيرة العربية، وممثلتها مكة، ليل نهار.. ويغدو من تعاقبها وتكرارها أن تصبح إلفا وعادة، ثم تتجاوز هذا لكي ما تلبث أن تصبح مفاخر ومكرمات يتبارى العرب في الإتيان بالمزيد المزيد منها.. ومحمد صلى الله عليه وسلم بعيد عن هذا كله، منسلخ منه.. ولقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة وطهرا لم يعرفهما إنسان قط، وعلمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض والتمرد على الوضع الدنيء، الوضع اللا إنساني مهما حمّل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه إثما وفسقا وفجورا إلى مرتبة الإلف والعادة، ثم إلى مصاف القيم والمفاخر والمعتقدات.

ولم يبق- ثمة- إلا البعد الروحي- الفكري، وهو أشد الأبعاد ثقلا وخطرا في حياة الإنسان. والروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدا عن صخب مكة وضجيجها، حينا بعد حين، وعن انقطاعه إلى الصحراء وحيدا، متأملا، باحثا، منقبا، مقلبا وجهه في أمداء السماوات والأرض.. هذه الروايات تكفي لالتقاط الإشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015