احتراما وتقديرا في بيئة كانت تستهجن مجهولي الأنساب وتحتقر الخلطاء. ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان، قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل، والإرادة النافذة، والتحدي الذي لا تنكسر له قناة. وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين. وعبر رحلته الأولى إلى الشام في رعاية عمه، فتح محمد صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطا وقلقا، والجماعات العربية التي فصلتها عن شقيقاتها في الصحراء الأم، سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق، وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هي وتهوى لا ما يريدون ويهوون.

وفي رحلته الثانية إلى الشام، مسؤولا عن تجارة السيدة خديجة، تعلم الرسول الكثير الكثير، عمّق في حسّه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكا أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب، والسيّد والمسود، وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب، وكنه العلاقات بينها واختلاف البيئات والأوضاع.. ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذي لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع، وفهما لما يتطلبه الإنسان في عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان في سعادته وهنائه، أو في تعاسته وشقائه.. وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول في رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التي تعلمها أيام الرعي صبيا، وها هو الآن (يدير) تجارة لسيدة تملك الكثير، فيعرف كيف يحيل القليل كثيرا، ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أمينا لا تلحق أمانته ذرة من غبار.. قديرا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة.

ثم يجيء إسهامه في القضايا الكبرى التي عاشتها مكة آنذاك، متنوعا شاملا مغطيا شتى مساحات العمل البشري الجماعي، وكأنه أريد له أن يجرب كل شيء، أن يسهم عاملا في كل اتجاه، وأن يا بني عبر نشاطاته المتنوعة جميعا شخصية قادرة على التصدي لكل مشكلة، والإسهام الإيجابي الفعال في كل ما من شأنه أن يعيد حقا أو يقيم عدلا.. في حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وسلم شؤون القتال، وفي حلف الفضول شارك في تجربة السياسة والحكم، وفي بناء الكعبة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015