يفوقها أهمية أو ما يضيف إليها حقائق أخرى، ولن نلقي اللوم على رواتنا ومؤرخينا فتلك هي كما قلنا طبيعة التاريخ، فالأبطال- أنبياء وغير أنبياء- يظلون مجهولين يتحركون في مناطق الظلال لكي ما يلبثوا أن ينتقلوا فجأة لأداء أدوارهم حيث تسلط الأضواء.. ولنا أن نحمد الله سبحانه على أن هيأ لنا هذا القليل عن هذه المرحلة الطويلة الأساسية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه القلة- على ندرتها- يمكن أن تقدم لنا الكثير إذا ما استنطقناها بالأسلوب العلمي الهادىء الرصين، بعيدا عن ضجيج النزعات الخطابية والإنشائية والتهويلية.
إن البطل في التاريخ، نبيا أو غير نبي، لكي يلعب دوره الحاسم، لا بدّ أن يستكمل شرطين أساسيين أحدهما يتعلق بتكوينه الذاتي الخاص، والآخر بالعالم الذي يضطرب فيه عبر دوائره التي تبدأ بعلاقاته الضيقة ثم تتسع عبر الإقليم والوطن والجماعة والشعب والأمة، لكي تشمل العالم كله.. ومن ثم فإن أي حوار ينفتح بين الإنسان والعالم سوف لن يبعث أبطالا إن لم يكن كلا القطبين مهيأ لإنجاح ذلك الحوار.. وهكذا فإن أية دراسة عن حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وبعده، سوف لن تتوغل في فهم هذه الحياة، توغلا كافيا، إن لم تضع في حسبانها هذين الطرفين، وتتمعن فيهما عن كثب بقدر ما تسعفها الوقائع والأحداث.
فأما ما يتعلق بالجانب الذاتي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فيبدو أن الظروف (البيئية) و (الوراثية) التي تسهم معا في تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخلقية والخلقية، وتصوغ بنيانه الجسدي والنفسي، وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية قد اجتمعت لكي تجعل من محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان المهيّأ لتحمل المسؤولية التي أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده.. أربعة عقود في حياة الإنسان المحدودة، تمثل امتدادا زمنيا طويلا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتي ونضجه البشري قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحي الأمين، وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلي السماء والأرض، وما أشق الحوار!!
طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكي يحولها إلى خلايا تبني كيانه وسمات مادية وروحية تهيئة لليوم العظيم. فعن (أصالة) أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في دمه وأعصابه أصالة الشخصية ووضوحها ونقائها، وكسب على المستوى الاجتماعي