«لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال» فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف والعودة قال: «أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه» (?) .

وهذا الأسلوب الذي اتبعه المنافقون في المسير مع المسلمين ثم الانسحاب في اللحظات الحرجة يتكرر مرة أخرى في غزوة تبوك التي لا تقل خطورة عن معركة أحد، إذ انطلق ابن أبيّ في أعقاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جماعته، وما أن اجتاز المسلمون مسافة قصيرة صوب هدفهم حتى تخلف المنافقون وقفلوا عائدين إلى المدينة (?) ، وإذا كان لهم عذر في ذلك أول مرة أعلنوه تبريرا لانسحابهم، فإنهم قد افتقدوا الأعذار هذه المرة ولم يقولوا شيئا!! إلا أن الموقف في كلا الحالتين هو نفس الموقف: عدم إيمان بالهدف الذي يتحرك إليه المسلمون، وخوف من الموت في سبيل قضية لا يؤمنون بها، وتخذيل للمسلمين في اللحظات الحرجة علّهم يجابهوا بهزّة خطيرة تقضي عليهم وتعيد المنافقين إلى حياة التسيّب القديمة، ويرجع لابن أبي حلمه القديم في أن يكون ملكا على قومه!!

ولقد ورد في سيرة ابن هشام، بصدد موقف المنافقين في محنة تبوك «أن عبد الله بن أبيّ، كبير المنافقين، ضرب عسكره بأسفل عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب» ، فتمسك بهذه العبارة المستشرق كايتاني وأخذ يعظم من شأن وعدد المنافقين ويشكك في عدد الجيش المرويّ. غير أن هذا وذاك في غير محلهما، فالآيات القرآنية صريحة بأن المتخلفين من الأعراب والمنافقين كانوا من الأغنياء وأولي الطول، وهؤلاء دائما محدودو العدد، وعبارة ابن هشام تحمل الشك الصريح في المدى، وقد روى في الوقت نفسه أن عدد المتخلفين من المنافقين كان بضعة وثمانين رجلا، وفي سورة التوبة آيات تحكي ما كان من شدة خوف المنافقين واعتذارهم وتزلفهم وإيمانهم، بما فيه الدلالة القوية على ما صار إليه شأنهم من ضعف، وعددهم من قلة وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015