إلا أن الانتصار الأهم، هو أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحدي الروم، وتقدمه لقتالهم وانسحابهم من طريقه، وانتظاره إياهم قرابة عشرين يوما دون أن يحركوا ساكنا، جاء ضربة قاصمة للسيادة البيزنطية في بلاد الشام، وإضعافا لمركزها الأدبي وسطوتها على القبائل العربية، وكسرا لجدار الخوف العربي من القوة البيزنطية، وهو انتصار نفسي حاسم مكن العرب، بعد سنين معدودات، من تجاوز ولائهم القديم والانطلاق لضرب البيزنطيين وإلحاق الهزائم بهم وطردهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها.

إن غزوة تبوك تمثل خطوة من خطوات الحركة الإسلامية المسلحة صوب الخارج، وتخطيا لنطاق العرب وجزيرتهم إلى العالم، وبادرة متقدمة لحركة الفتوحات التي شهدها عصر الراشدين.

ولقد جاءت تجربة تبوك التي سماها المسلمون (غزوة العسرة) وقالوا إنها جاءت عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة، شبيهة بمحنة (أحد) ، نارا ممحصة على حريقها ووهجها تميز المنتمون إلى معسكر الإسلام، درجات بعضها فوق بعض، وهذا شأن كل معسكر في تاريخ البشرية، فليس بنو آدم ملائكة يقفون صفا واحدا ولكنهم يتميزون في إيمانهم وإخلاصهم وانتمائهم، تميزهم الانتصارات الحاسمة والإنكسارات الخطيرة وتفرّق بينهم تجارب الراحة والسعادة وآلام المحن والنكبات. فها نحن أولاء نجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين أن يتجهزوا للرد على التحدي البيزنطي عبر المجاعة والعطش وجحيم الصحراء وطريقها الطويل، أناسا يقفون في القمة، وآخرين يتحركون صعدا في منتصف الطريق لا يقدرون على الصعود خطوات أخرى إلى أعلى، وهم مع ذلك يحاولون ويحاولون، وفئة ثالثة حرنت في مواقعها لا تريد أن تسعى ولا أن تتحرك.. وهنالك في الأسفل، عند جدار المرتفع وفي منخفضاته، طوائف كثيرة من المنافقين والمنهزمين، يتخبطون كالحشرات والديدان دوارا على أنفسهم وبقاء في الحفر الضيقة!!

أنفق عثمان بن عفان- يومها- نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، بلغت- فيما ذكره البلاذري- سبعين ألف درهم (?) ، وتصدى بماله لمشكلة النقص الخطير في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015