في غزوة تبوك فقد بينه للناس «لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته» . وأمر صلى الله عليه وسلم بالتجهز وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وحضّ الذين يملكون على النفقة في سبيل الله وتهيئة الدواب التي ستنقل المقاتلين إلى الشمال. ثم ما لبث أن انطلق في رجب بأكبر جيش عرفه تاريخ الدعوة حتى ذلك الحين، قيل إنه بلغ ثلاثين ألفا، تصحبها عشرة آلاف فرس، مستخلفا في المدينة عليا بن أبي طالب رضي الله عنه (?) ، ودافعا لواءه الأعظم إلى أبي بكر ورايته إلى الزبير رضي الله عنهما (?) .
بدأ المسلمون مسيرتهم التي قطعوا فيها آلاف الأميال، وعانوا آلام العطش والجوع والحر وقلة وسائل الركوب وبعد الطريق.. ويحدثنا عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده (?) . لقد كان جوب البادية- يقول درمنغم- صعبا، وجعل محمد صلى الله عليه وسلم وجنوده يعسكرون بعد غروب الشمس المحرقة تحت عاصفة من الرمال جياعا عطاشا، وتوارى هؤلاء الجنود خلف جمالهم، مولين الرياح ظهورهم مدثرين بأرديتهم، متشبثين بالأرض، وخرج اثنان من العسكر فاختنق أحدهما واحتملت الريح الآخر. فلما أصبح الناس بدؤوا يزحفون منهوكين محمري العيون، مفطّري الأرجل، مجمّدي الريق، مدويي الآذان، مفريي الجلود، زالقين على ألواح حجرية سود، متخرقين لصخور بادية على شكل سوق الشجر.. وبلغ بعضهم من الهذيان ما صب معه في حلوقهم ووضع على صدورهم سوائل، أخذت من كروش الإبل (?) .
انتهى المطاف بالمسلمين إلى تبوك في أقصى الشمال، ويبدو أن الروم