هرقل الخبر تنازل عن أقواله وقال: إنا نخافهم على أنفسنا! صغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني (?) . ويورد اليعقوبي صيغة الرسالة الجوابية التي بعث بها هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيها «إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى. من قيصر ملك الروم. إنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى ابن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم..» (?) !.
غير أنا نشك في صحة هذه الروايات لما يغلب عليها من مبالغة وسرد قصصي سيما وأنها تتحدث عن فترة كان أمبراطور الروم قد غدا فيها سيد العالم في أعقاب انتصاره على غريمه الفارسي، وأن نشوة النصر لا يمكن أن تقوده إلى الحذر والتحسب لما ستجيء به الأيام، ولما يمكن أن يتمخض على أيدي قوم من العرب، لم يكن لهم حتى ذلك الحين وزن في الميدان الدولي (?) .
ورغم ذلك فإن الاهتمام الذي أبداه هرقل تجاه السفارة النبوية وترحيبه بمبعوث النبي صلى الله عليه وسلم دفع حاشيته إلى الهياج، وزادهم هياجا ما عرضه عليهم- لا ندري جادا أم هازلا- من اعتناق الدين الجديد. وهرقل في نظرنا رجل سياسي، وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه، وقد تولى شؤون الدولة في وقت كانت الخلافات الكنسية حول طبيعة المسيح تغلي غليان المرجل وتثير في الأمة انقسامات مخيفة، وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد، فعجز وتمرد عليه اليعاقبة وغيرهم في مصر والشام. فالكلام في الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر لمصلحة الدولة ديدنه، ولعله في أعماق قلبه يحس سخف أولئك المختلفين جميعا.. وشاءت لباقة قيصر السياسي أن يستدعي دحية وأن يحاول إيهامه بأنه أسلم، ثم أعطاه قدرا من الدنانير وصرفه. وعاد دحية إلى رسول الله بالنبأ فقال النبي: كذب عدو الله ليس بمسلم، وأمر بالدنانير فقسمت على المحتاجين (?) .