ذلك.. فكان محمد يرى المثال في شهداء نصارى القرون القديمة وفي شهداء نصارى القرون الأخيرة في اليمن (شهداء الأخدود) وكان يثني على القسيسين والرهبان الذين قدر فضائلهم في تخوم الشام. وسرّ محمدا ما أسفر عنه انتصار الروم من عدم هدم كنائس النصارى وبيعهم التي (يذكر فيها اسم الله كثيرا) . وكان محمد صلى الله عليه وسلم يرى في أهل الكتاب الحلفاء الذين يؤيدون ما يقول، ويؤمنون بالحق الذي يدعو إليه والذين وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (?) وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتخذ من انضمام حملة العلم من أهل الكتاب إليه دليلا على صدق الإسلام وبطلان دعوى المشركين، وكان يصرح بأن رسالته مما بشر به الكتاب المقدس (?) .
وللمسيح في القرآن مقام عال، فولادته لم تكن عادية كولادة بقية الناس، وهو رسول الله الذي خاطبه الله جهرا.. وهو كلمة الله الناطقة من غير اقتصار على الوحي وحده.. والقرآن يقصد النصرانية الصحيحة حينما يقول إن عيسى كلمة الله أو روح الله ألقاها إلى مريم وإنه من البشر.. وهو يذم مذهب القائلين بألوهية المسيح ومذهب تقديم الخبز إلى مريم عادة ثم أكله، وما إلى ذلك من مذاهب الأسماء النصرانية لا النصرانية الصحيحة. ولا يسع النصراني إلا أن يرضى بمهاجمة القرآن للثالوث المؤلف من الله وعيسى ومريم وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (?) .
وبدلا من أن تكون النصرانية موحدة في فرقة واحدة في جزيرة العرب قائلة بالنظام والمحبة، كانت مجزأة إلى شيع متعادية منهمكة في المجادلات العقيمة، فلا عجب إذا بقي الإسلام بعيدا عن هذه المناقشات البيزنطية حول العقائد.. وما كان يقع في سبيل النصرانية المشرقية من المنازعات المذهبية موجب للخزي، فقد صار النصارى يضطهد بعضهم بعضا في سبيل معنى إحدى الكلمات، والعلماء يصرون على مجادلاتهم الكلامية، والخرافات تفسد الجمهور بفضل العدوى (?) .
ومن الطبيعي- يقول دروزة- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوحي إليه منذ الوقت المبكر بما أوحي، وظل يوحى إليه بمثله بأساليب متنوعة، قد وقف منذ البدء