وأصبحت تقاليد الحج مثل ذلك وصار تحت السلطان الإسلامي، وليس من المعقول أن يسمح للمشركين بممارسة تقاليد الوثنية فيه، عدا ما له من الحق الطبيعي في سدّ بابه على أعدائه السياسيين والدينيين (?) . وقد أتي هذا البيان ثمرته، فإن النبي قد حج في العام العاشر حجته الأخيرة على النظام الإسلامي الكامل، وحج معه فيها حوالي مائة ألف من حاج العرب (?) ، لم يكن من بينهم مشرك واحد. وفي الفترة التي تقع بين إعلان براءة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبّق الرسول قانون براءة بحذر شديد وكياسة سياسية بارعة وتجنب الاصطدام بالقبائل وإلا جرح كبرياءها وأثار عصبيتها، ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم وانضمامهم إلى حكومته، ويرسل معهم عند عودتهم مسلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم (?) .
والواقع أن (إعلان براءة) بوقف الوثنية نهائيا، أمر لا يمكن إدراك أبعاده إلا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبيها (الحضاري) و (الاستراتيجي) كضرورتين يرتبط بعضهما ببعض وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا. فأما أولاهما فهي أن الوثنية، على خلاف سائر الأديان الآخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشده إلى الحجارة ويصده عن التقدم إلى الأمام ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الآخرى في الوجود. ولو بقي العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه المحدود هذا، أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه لكي ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء (?) .
وأما ثانيتهما فتقوم على أن الدولة (العقيدية) التي أنشئت في قلب المنطقة العربية، وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله.. هذه الدولة كان عليها أن تعتمد استراتيجية صارمة، واضحة المعالم، من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة، من جيوب الوثنية العربية ومراكز القوى