الجاهلية، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج من الوحدة العقيدية والسياسية على السواء، لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجية، حاشدة له جل طاقاتها.
وعلى ضوء هذا الارتباط بين الضرورتين الحضارية والاستراتيجية يمكن أن نتفهم موقف الحركة الإسلامية، نظرية وتطبيقا، إزاء عدد من الأديان. فمهادنتها اليهودية والنصرانية في شبه الجزيرة نفسها كان ينبثق عن كون الديانتين كتابيتين متقدمتين (فكريا) على سائر الديانات الآخرى السابقة والمعاصرة للإسلام، فضلا عن كونهما لا تمثلان- من الناحية الكمية- خطرا استراتيجيا على الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة. إلا أن اليهود عندما نشطوا قبل غزوة خيبر الحاسمة وبعدها لضرب الدولة، وإجراء اتصالات عديدة مع القوى الخارجية المتربصة، صدر أمر بعدم السماح لهم بالبقاء في الجزيرة، في أقسامها الشمالية على الأقل، وقد تمثل هذا الأمر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في الجزيرة) ، كما تمثل بخطوات عمر بن الخطاب العملية لإجلاء معظم اليهود عن المنطقة.
وموقف الإسلام- كذلك- من المجوسية والبوذية، وعدم سعيه لتصفيتهما- رغم تأخرهما الحضاري- يعود إلى أنهما لا يشكلان خطرا استراتيجيا مباشرا على قاعدة انطلاقه إلى العالم، شأن الوثنية في شبه الجزيرة. وهكذا يجيء إعلان (براءة) نصرا حضاريا واستراتيجيا لدولة الإسلام، وهي تتهيأ للخطوة التالية في (تحضير) العالم و (جهاد) قياداته (الكافرة) جميعا من أجل منح حرية الاعتقاد للإنسان حيثما كان.