من مركز القوة الذي أحرزه المسلمون بعد الخندق، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينطلق ليعتمر بأصحابه في مكة مستهدفا تحقيق أهداف ثلاثة، أولها إشعار الناس جميعا أن علاقات الإسلام بالقوى الآخرى ليس شرطا لها أن تظل قائمة على الحرب والعنف والقتال، وأن بالإمكان أن تسودها فترات من السلم والتهادن والتعايش المشترك على خلاف المذاهب والاتجاهات. وثانيها تجميد الصراع ضد قريش، ذلك الذي استغرق معظم مساحات الدرب الطويل الذي اجتازته الدعوة الإسلامية، والالتفات إلى الجهات الآخرى لغرض التركيز عليها، سيما بعد التصعيد الذي شهده الصراع ضد اليهود من جهة، وضد البيزنطيين وحلفائهم نصارى العرب من جهة أخرى. وأما ثالث الأهداف فهو إقرار حقيقة أن مكة ومقدّساتها ليست حكرا للوثنية تمارس فيها تقاليدها بحرية، وتسيطر على مقدراتها، فتسمح بدخولها لمن تشاء وتمنع من تشاء.. على العكس، إن المسلمين أحفاد إبراهيم عليه السلام أبي الحنيفية، وباني الكعبة، أحق وأجدر بدخول الحرام الآمن، وممارسة شعائرهم القائمة على التوحيد الخالص، الذي من أجله أقيم البلد الحرام في الوادي غير ذي الزرع.
ثم أن المسلمين المهاجرين ورسولهم صلى الله عليه وسلم لا زالوا يحنّون وطنهم القديم ويطوون جوانحهم- عبر سني الصراع الطويل- على الشوق العارم إلى الديار التي ولدوا فيها، وترعرعوا بين أكنافها، وآثروا دعوة الحق بين طرقاتها وأحيائها..
الحنين الذي كان بلال قد باح به في أيام الهجرة الأولى، والحمى تعتصره: