واستعداد، دور بثّ دعوة جديدة بين طبقات الأمة، دور حرب ونزاع كلامي بين رجل ثابت في مبادئه، مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد، فهبّت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه، دور جهود وأحلام لو تحققت كلها لقلبت البلاد رأسا على عقب. ما أجمل هذا الدور وما أعظمه وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها!! وأما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدّت إلى تساهل من الطرفين. ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض مطالب أو مبادىء، أو التلطّف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان. وهذا ما كان من أمر النبي العربي، ورئيس جمهورية مكة (أبو سفيان) الخبير المحنك الذي كان يتكلم بلسان الملأ المكي، هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية، ويهجر الأوثان، ويؤدي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون. أما الفريق الثالث (أي الفقراء) ، وهو الطرف الذي استعرّت الحرب لأجله، وظهرت الدعوة لتحسين أحواله، فقد أرضوه في بادىء الأمر بشيء من الصدقات والزكاة ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها» (?) .
إن فهم السيرة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شمولية تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدّد في قرآنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيته وذكائه وإمكاناته الفذة في التخطيط والتنفيذ.. ورغم أن القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس الأحداث وتعلق عليها (بعد وقوعها) إلا أنه بمجموعه كمبدأ (أيديولوجية) لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله. ومن ثم فإن (الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطى