ليست سوى لبنة واحدة في البناء التشريعي الكبير الذي وقع عبء إقامته على عاتق القرآن الكريم قبل كل شيء، هذا إلى أن الكثير مما ورد في الوثيقة لا يعدو أن يكون برنامجا مرحليا بالنسبة للخارطة الثابتة الدائمة لدولة الإسلام واستراتيجيتها التشريعية الشاملة، ومن ثم فإن التأكيد على أهمية الوثيقة، فضلا عن أنه يعد بحد ذاته خطأ تاريخيا وموضوعيا، فإنه يحجب في الوقت نفسه الحجم الحقيقي للتشريع القرآني الذي كان يتمخض باستمرار عن مزيد من القوانين والتشريعات ويقود الباحث بالتالي إلى الرؤية الغربية الوضعية التي تجد في (الوثيقة) محاولة بشرية أولية من المحاولات التي قام بها المشرعون على مدار التاريخ لتنظيم شؤون دولتهم الناشئة، وإنه يجب ألا يغيب عن بالنا أبدا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى وأنه كان يصدر في الخطوط العريضة للدعوة عن وحي الله وأن هذا الوحي يبدو أكمل ما يبدو في القرآن الكريم نفسه، وكل الإنجازات والأعمال الآخرى إنما هي امتداد وتوسيع وتفسير فحسب لهذا الأصل (الإلهي) الكبير.
وثمة مسألة أخرى تجدر الإشارة إليها في هذا المجال، تلك هي إطلاق اسم (دولة المدينة) أو الدولة (اليثربية) على دولة الإسلام الأولى بحكم قيامها بالمدينة المنورة، ذلك أن تعبير (دولة المدينة) قد يسوق ههنا إلى لبس يوهم أن المقصود أنها كانت دولة من النوع الذي يقوم فيه الكيان الإقليمي للدولة على (مدينة) من المدن) City -State (مثل أثينا أو إسبرطة في التاريخ القديم. والحق أن (دولة الهجرة) ارتبطت بيثرب ارتباطا عارضا، ولقد كانت دولة عقيدية عالمية من أول يوم، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان يتبنى الفكرة ويدين للعقيدة (?) ، كذلك فإن الدولة الجديدة في المدينة هي دولة الهجرة لا دولة المهاجرين. فالمهاجرون هنا لا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يصطنعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها. وهكذا لا نجد تجارب توطين الأوروبيين في أمريكا أو أستراليا أو جنوب أفريقيا على اختلاف درجات حرارتها. إنها دولة فكرية عقيدية سكانها المقيمون فيها من قبل والمهاجرون الوافدون سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.. والعقيدة معروضة على كل إنسان بحكم إنسانيته، أيا كان