وقال صلى الله عليه وسلم وهو يمزج خطي التربية العسكرية المتوازيين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة، وتقديم الجهد في ساحة القتال أو في الخطوط الخلفية صنعا للسلاح أو إمدادا به (إن الله عزّ وجلّ ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر، الجنة.. صانعه يحتسبه في عمل الخير والرامي به ومنبله) وشاهد رجل في أطراف المدينة عقبة بن عامر يحمل السلاح ويمارس التهديف راكضا من مكان إلى مكان فسأله (تختلف بين هذين الموضعين وأنت شيخ كبير؟) أجابه الشيخ:

(سمعته يقول: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا) بهذه اللهجة الحاسمة (ليس منا) ! ذلك أن الذي لا يعرف السلاح ابتداء والذي يعرفه حينا من الوقت ثم ينساه سواء.. على العكس أن هؤلاء الذين يذهبون إلى سوح القتال وهم يحملون سلاحا لا يعرفون كيف يضربون به، سرعان ما يتعرضون للارتباك والرعب فتحصد رؤوسهم ويكونون كارثة على رفاقهم الذين يشل الموقف قدرتهم على استخدام السلاح.

بهذه الإجراآت الأربع وضع القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة، وأخذت التشريعات المنبثقة عن هذين المصدرين تنمو وتتسع يوما بعد يوم، لا بطرائق نظرية تجريدية منفصلة عن الحياة والواقع وإنما وفق نفس الأسلوب الذي كانت الآيات المكية تتنزل فيه لكي تبني العقيدة في أذهان ونفوس الإنسان والجماعة المسلمة، وهو أسلوب يرتبط ارتباطا عضويا حيويا بالواقع الحركي والتجربة الحية المعاشة، ومن ثم تجيء معطياته أشد التصاقا بحركة المسلمين ونمو دولتهم، وأكثر التحاما بتجربتهم المحسوسة وواقعهم المعاش، وأعمق فهما وإدراكا لمتطلباتها وأبعادها القانونية والسلوكية، نظرا لمواكبتها لمشاكلهم وتجاربهم اليومية ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.

لقد بدأت مرحلة بناء الدولة الإسلامية (العقائدية) في أعقاب الهجرة، حيث كانت المرحلة السابقة، مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، قد اكتسبت ملامحها الأساسية في العصر المكي وغدا المسلمون أفرادا وجماعات على استعداد نفسي وذهني كاملين لتقبل ما سيجيء من تشريعات وما سيفرض من تنظيمات ويوضع من حدود ويرسم من علاقات، بعد أن هيأهم النضج العقيدي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015