صلى الله عليه وسلم بإعلان الجهاد المسلح ضد الوثنية حتى أواخر العصر المكي، وعلى وجه التحديد الأيام التي سبقت بيعة العقبة الثانية، وهذه الأسباب ترتبط ولا ريب بالإسلام كحركة، وبالأرضية أو البيئة التي يتحرك عليها. إذ لم يكن بمقدور الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمح لأصحابه بالقتال قبل أن يكتمل نموهم العقيدي ويصل مرحلة النضج، وقبل أن يزداد (عددهم) بما يمكنهم من توجيه ضرباتهم وتحمل الضربات المضادة من جهة أخرى دون أن يتعرضوا للتشتت والفناء، وقبل أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء (الدولة) التي ستحمل العقيدة الجديدة وتحميها، منتقلا بذلك من مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة والتي استغرقت العصر المكي كله إلى هذا الطور الجديد.

وفي الجهة المقابلة كانت (البيئة) التي يتحرك فيها الإسلام بيئة قبلية تعير اهتماما كبيرا لصلات النسب والقربى، الأمر الذي مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يجد حماية (طبيعية) في عشيرته بني هاشم التي ذاقت معه- بسبب تقاليد مكة القبلية- أشد تجاربه ألما، والمتمثلة بسني الحصار الصعب في شعب أبي طالب. وكان رفع السلاح بوجه المشركين سيستفز عشيرة الرسول نفسه، ويبعدها عن نصرته فتتركه وأصحابه وحيدين ليس من يحميهم، فتحصدهم سيوف قبائل قريش جميعا. أما وهو ينشر دعوته (سلما) ويتعرض وأصحابه لذلك الاضطهاد الذي لم يصل حد محاولة القتل إلا في اللحظات الأخيرة، فإن ذلك لم يؤدّ إلى إبقاء بني هاشم وأحلافهم إلى جانب دعوته فحسب بل استفز نخوة الكثيرين من رجالات وأبناء القبائل الآخرى للظلم الذي يلحق بأبنائهم وإخوانهم ودفعهم إلى مناصرة الدعوة الجديدة أو الانتماء إليها. وما يقال عن التركيب القبلي للمجتمع المكي، يقال عن جزيرة العرب كلها حيث كانت قبائلها ستقف مرتاحة لزعيمتها قريش وهي تحصد رؤوس مجموعة من بنيها القتلة الذين حملوا السلاح ضد آبائهم وإخوانهم، ومهتاجة مغضبة إزاء الظلم والقسوة والاضطهاد الذي ينصب على الدعاة الجدد دون أن يحملوا سلاحا أو يقتلوا أحدا.. هذا فضلا عن الأمل العميق في هداية قريش وانتمائها إلى الدين الجديد واعتمادها- كأعرق قبيلة في الجزيرة- منطلقا إلى العرب جميعا.

إلا أن مرحلة بناء الإنسان والجماعة المسلمة ما كادت تشرف على نهايتها ويضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء الدولة الإسلامية في يثرب، وتصعّد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015