صنعوا للمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإثرتهم على أنفسهم ثم قال: (إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله عليّ من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم) فأجابه زعماء الأوس والخزرج: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله (?) .
وقابل المهاجرون إيثار إخوانهم وسماحتهم بتقدير كامل وسماحة مماثلة رافضين منذ البدء أن يكونوا إتكاليين على إخوانهم وعالة على أولئك الذين آووهم وقاسموهم.. وليست قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه الأنصاري سعد بن الربيع سوى مثل واحد من عديد من الأمثلة على هذا التقابل الأخوي العادل في الأخذ والعطاء. روى البخاري أن المهاجرين لما قدموا المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تبع الغدو.. وما لبث أن جاء يوما وعليه آثار زينة فقال النبي: مهيم؟ أجاب:
تزوجت. فقال: كم سقت إليها؟ قال عبد الرحمن: نواة من ذهب.
لقد كان (الإخاء) تجربة رائدة في تاريخ العدل الاجتماعي، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مثلا على مرونة الإسلام وانفتاحه في الظرف المناسب على أشد (أشكال) العلاقات الاجتماعية مساواة وعدلا، ورد فيه، وفق المنطق الإلهي الذي لا يحابي ولا يداجي، على كل القائلين بأن الإسلام جاء لكي يمثل (إصلاحا) جزئيا للمسألة الاجتماعية لأن (العصر) الذي تصوغه (وسائل الانتاج) لم يتح له أن يتحرك لصياغة عالم جديد من العلاقات لم تسمح المرحلة الانتاجية بعد بصياغته ولم تأمر بها. وسنرى فيما بعد، عبر سني الدعوة الحافلة، المزيد من التجارب الاجتماعية التي تصفع هذا التحليل الخارجي الصارم، تلك التجارب التي لا تقل في خطورتها ودلالتها عن تجربة الإخاء.