[4]

ولن نغادر حركة الهجرة قبل أن نستمد منها تعاليم أخرى قد تعيننا على فهم وتفسير تاريخ البشرية عامة وتاريخنا الإسلامي على وجه الخصوص.. إن أي حدث تاريخي- كما يتضح من خطوة الهجرة- إنما يجيء تعبيرا عن إرادة الله التي تصوغه من خلال إرادة الإنسان، أو مباشرة، عن طريق اتصالها بالزمن والتراب، ولا يمكن دراسة تاريخ الكون والطبيعة، وتاريخ البشرية والأحياء إلا من هذا المنطلق.

إن الفعل الإلهي يتخذ أشكالا ثلاثة لخلق الحدث وصياغته، أولها مباشرة الفعل التاريخي (كما حدث في تجربة الهجرة، في تلك اللحظات التي كان الرسول يجابه فيها موقفا يتعدى حدود قدراته وإرادته وتخطيطه) ، والشكل الثاني يتم عن طريق ما يمكن تسميته بالسببية التاريخية، أي تهيئة الأسباب لتوجيه الأحداث هذه الوجهة أو تلك.. وقد تكون هذه الأسباب مادية طبيعية أو حيوية إنسانية، وقد تجيء على شكل مجموعة من السنن التي تنظم حركة الكون والحياة والإنسان، والتي تفرض حتمية قانونية على بعض أحداث التاريخ (وقد رأينا في تجربة الهجرة كيف هيّأ الله سبحانه الأسباب لأن تكون يثرب الأرضية التي تقوم عليها دولة الإسلام، ولأن يكون أبناؤها الطّاقات البشرية التي تنصر هذه الدولة وتحميها ريثما يتم البناء) . أما الشكل الثالث للفعل الإلهي فيجيء عن طريق الحرية الإنسانية ذاتها، والتي هي في مداها البعيد جزء من إرادة الله في خلق الأفعال والأحداث.

لقد منح الله الحرية للإنسان، ابتداء، لكي يصنع تاريخه الفردي والجماعي، ولكي يشكل مصيره فردا وجماعة، اعتمادا على ما ركب في وجوده من قوى العقل والإرادة والانفعال والحسّ والحركة (وهذا يبدو في تجربة الهجرة من خلال تلك الخطط الاجتهادية التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي قدمت لحركته صوب إقامة الدولة، ضمانات حاسمة في طريق النصر) . والإنسان بدوره، عندما يستخدم حريته لصناعة الحدث وتوجيه المصير إنما يعتمد على مقدمات لا يمكنه بحال الاستغناء عنها؛ الزمن، التراب، ثم التعاليم والقيم والأعراف والتقاليد، وضعية كانت أو دينية.. وها هو الرسول في هجرته ينسّق خطواته صوب هدفه، مستخدما هذه العناصر الثلاث، متخذا منها عجينته في صياغة الحركة وضمان الأهداف.

إن معظم مذاهب التفسير التاريخي، وضعية كانت أو دينية، قدمت معطياتها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015