حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم (?) ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم (?) .
وقبل أن يرجعوا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم من بينهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس (?) ، ليشرفوا بأنفسهم على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك وكثر مثقفوه، وحيث أراد الرسول- بفقهه العميق لأساليب الدعوة- أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره، ثم قال لهم: ارفضّوا إلى رحالكم، فقال له أحدهم، وقد شعروا أن نبأهم بدأ يتسرب إلى قريش: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا!! فأجابه رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم (?) .
خطوات محكمة، واستخدام حصيف للإمكانات، وفقه عميق لخطوات الحركة.. يرافق هذا كله هدي السماء الذي لم يفارق خطى الرسول لحظة، والذي ساق إليه- بما أوجده من ظروف صعبة في يثرب- هذه الوفود التي جاءت تحمل إليه ما كان يرجوه ويعمل على تحقيقه جاهدا.
«رجعنا إلى مضاجعنا- يقول أحد المبايعين- فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم! فانبعث من هناك، من مشركي قومنا، يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه! - وبعضنا ينظر إلى بعض- وقد صدقوا، لم يعلموه!» .
«ونفر الناس من منى.. وتأكدوا صحة الخبر، فخرجوا في طلب القوم فلم يدركوا، وكانوا قد رحلوا، سوى اثنين: سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو-