العجيب وبالهدي الإلهي الذي يمده بنوره، كان ينتظر نتيجة مساعي أصحابه الجدد، ويجسّ النبض ويختبر الإمكانات. إنه في المرة الأولى اكتفى بأن يعرض الإسلام وأن يودع الستة الذين أسلموا دون أية بيعة، وفي المرة الثانية بايعوه على الجانب السلمي- إذا صح التعبير- من برنامج الإسلام «ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف» (?) . وأرسل معهم داعيته الشاب مصعب بن عمير- الذي لم يشأ أن يجازف به في المرة الأولى- أرسله هذه المرة بعد أن استبانت له ملامح المستقبل، لكي يتولى شؤون الدعوة والتثقيف العقائدي هناك.
ومرت أشهر وأشهر ومصعب يعمل في المدينة بهمة لا تعرف كللا ولا فتورا.. يتحرك بالقرآن، ويحرك أفئدة الناس هناك وعقولهم بالقرآن.. كانت آيات الله تملك في بنيتها المعجزة سحر الإقناع، وكان مصعب يزيدها سحرا في تلاوته إياها وسط حشود الناس التي كانت تجتمع، مبهورة الأنفاس من حوالي مصعب، في أزقة المدينة وطرقاتها، وهو يتلو آيات من القرآن الكريم.. وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة، غادر مصعب يثرب، يطير به الشوق للقاء رسوله وقائده. في مكة اجتمع به وعرض عليه نتائج مساعيه في يثرب، وأنه عما قريب سيلتقي الرسول بوفد كبير منهم تقرّ له عينه ويطمئن به باله.
وعند العقبة أيضا.. اجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم بأعضاء الوفد الموسّع الجديد..
كان يضمّ هذه المرة ثلاثا وسبعين رجلا وامرأتين.. اتفق معهم سرّا على أن يوافوه في الثلث الثاني من الليل، حين ينام الناس وتغافل العيون.. يتسللون إليه واحدا واحدا واثنين اثنين.. وتمت البيعة الثانية.. البيعة الكبرى.. هذه المرة صريحة واضحة مكتملة، على كل جوانب الإسلام، سلما كان أم قتالا- بعد أن أذن الله لرسوله بالقتال- ومدّوا إليه أيديهم مصافحين، ومقسمين بالله الواحد الذي آمنوا به، أنهم سيحمون الرسول صلى الله عليه وسلم وينصرونه، وأنهم سيرفعون السلاح مدافعين بوجه أية قوة في الأرض، سوداء كانت أم حمراء، تسعى إلى الفتك به وبدعوته وأصحابه، وسأله أحدهم: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال- يعني اليهود-