من هذه القبائل (بنو كندة، بنو عامر بن صعصعة، بنو حنيفة.. الخ) لم تمد يدها مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرحبة بهجرته إلى أرضها وديارها.. فقد أعمت الوثنية الجاهلية قلوبهم وأبصارهم عن الشرف الذي كان يمكن أن يحظوا به لو قالوا للرسول: بايعنا.. ونصرنا!!
ويمضي الرسول صلى الله عليه وسلم في بحثه عن الطريق الذي سيهاجر عليه وأصحابه صوب هدفهم المحتوم. وكان أن بعث الله نفرا من يثرب.. ساقتهم إرادته التي لا تغلب، إلى الرسول في السنة العاشرة للبعثة.. فالتقوا به عند العقبة، المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب أم القرى، وعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مبادىء الإسلام، غاية في الوضوح والسماحة والعدل والمساواة والانسجام مع تكوين الإنسان ونشاطه وأهدافه.. فما كان منهم إلا أن لبوا الطلب، وأعلنوا إسلامهم، ووعدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سيرجعون إلى يثرب ويبشرون بدعوته العادلة هناك، وقالوا «إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى الله أن يجمعهم بك.. فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك» ، وقفلوا عائدين إلى بلدهم، وراحوا يدعون قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم «فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم» (?) . ومما ساعد هؤلاء الرواد، والذين أعقبوهم، على التحرك لنشر الدعوة في يثرب، وساعد بالتالي على نجاح (الهجرة) ، أن الأوس والخزرج كانوا في هذا الوقت أصحاب الكلمة العليا في يثرب، وكانوا قد أصبحوا سادة الموقف فيها، وأصبح اليهود يعتبرون موالي لهم، فإذا تحالف النبي مع الأوس والخزرج ودخلوا في دينه، كان له ألا يخشى اليهود، كما كان في مقدور الأوس والخزرج أن يدخلوا في المدينة من شاؤوا دون أن يخشوا اعتراض اليهود عليهم (?) .
وما لبثت السنة التالية أن جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، في نفس المكان، بوفد ثان من أوس يثرب وخزرجها: اثنا عشر رجلا، من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل ... جاؤوا لا ليعلنوا إسلامهم هذه المرة بل ليبايعوا الرسول على الإسلام، تمسكا بأهدافه والتزاما بقيمه وأخلاقياته. ولم يشأ الرسول أن يتسرع الخطوة التالية ويعرض عليهم طلبه القديم: أن يمنحوه أرضهم وبلدهم وأن يحموه.. إنه بذكائه