إن للإنسان زادين زادا للدنيا وهو غذاؤه الذي به ينمو ويقوى، وزادا للأخرى وهو زاد التقوى ومن صنع الله لنا ورحمته بنا أن كفل لنا أحد الزادين وهو زاد الدنيا وكلفنا بالآخر وهو زاد الأخرى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ولكننا- لجهلنا- ننفق حياتنا في طلب ما كفله الله لنا ونفرط فيما به كلفنا ولولا جهلنا وغباوتنا وقصر نظرنا ما شغلنا ما يفنى عما يبقى مع أن الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا قد اختار لنا إذ قال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وفضل زاد الروح على زاد الجسد إذ قال: {إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وفاضل بين الناس على هذا الأساس إذ قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولكن هذه الكلمة- كلمة التقوى- قد فقدت عند الناس قيمتها وثقل على الأسماع وقعها وأصبح من يقول: اتقوا الله رجلا ثقيلا جافيا ليس على شيء من ذوق العصر ... في عرف أهل هذا العصر فكأن قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} يعني رجل هذا العصر ولكن لا خير في عصر لا يسير على مقتضى هذه الكلمة.
قال رجل لعمر بن الخطاب- وهو على المنبر-: اتق الله فانتهره رجل آخر فقال له عمر: "دعه فلا خير فينا إذا لم نسمعها ولا خير فيهم إذا لم يقولوها" وإنما كانت هذه الكلمة: بهذه المنزلة لأنها الكلمة الجامعة لما يجب أن يكون عليه المسلم مع الله والناس لذلك كان صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه لأنها كالإجمال لما يذكر بعدها ولكننا اليوم أسأنا فهمها فاستثقلنا سماعها إذ فهمنا منها أنها الإعراض عن الدنيا بالمرة ونحن لا نستطيع أن نعرض عن الدنيا بالمرة. مع أن التقوى ليست إلا السير على مقتضى القرآن الذي يقول: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.