التي رسمها لنا عليه الصلاة والسلام، إذ قال: (رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم) ولكن هذه الخطة القويمه الحكيمة التي تعصم من الزلل في النطق وتعصم من الاثم في الصمت، نسخناها بعملنا فلا نتكلم إلا اكتسابا للإثم، ولا نسكت إلا إمساكا عن خير، ولا تتكلم إلا بالزور والكذب والنفاق والملق، ولا نتكلم إلا اغتيابا ونميمة أو تعريضا بشخص أو تحريضا على فتنة، ولا نسكت إذا سكتنا- إلا عن خير ندعو إليه أو شر ننهى عنه أو خطر نحذر منه، وكثير جدا من الشرور لم يساعد على انتشارها إلا سكوت من قبلنا عنها فلما قويت واشتدت ورسخ أصلها في الأرض وامتدت فروعها في السماء صعب اقتلاعها واستئصالها، ولولا السكوت لكانت يوم ولادتها تموت، فيجب أن نعرف للسكوت أضراره كما للكلام أضراره، إن هذا اللسان كالفرس الجموح فإن عرفت كيف تروضه وتضبطه أوصلك إلى ما تريد وقضيت به كل ما تروم قضاءه وإن أهملت رياضته ولم تحسن سياسته رماك على رأسك في هاوية، وأفرس الفرسان من تغلب على جموح اللسان، ومن هنا كانت للسان مسؤوليته العظمى بحيث يحصى على الإنسان كل ما يفوه به اللسان قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقال عليه الصلاة والسلام من حديث: (وهل يكب الناس على وجوههم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟) ولذا كان الصديق رضي الله عنه كثيرا ما يمسك بطرف لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وإذا كانت هذه شكوى الصديق من لسانه فماذا يكون قولنا نحن وألسنتنا تظل تحصد ما نزع وتهدم ما نبني؟ إن الفرق الواضح بيننا وبين تلك الصفوة الكريمة من عباد الله هو هذا الشعور الدائم بالتقصير وهذه اليقظة الواعية للمسؤولية التي لا تتركهم يطمئنون إلى قول أو عمل دون أن يزنوه بميزان الشرع. أما نحن فقد قضي على هذا الشعور فينا وهذه اليقظة منا ما تراكم على قلوبنا من آثام ومخالفات فلم نتركها تشعر أو تحس أو تتيقظ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فلنحترس من ألسنتنا دائما فرب كلمة أوقدت فتنة وأراقت دماء ولنعرض عن كلام السفهاء ولا نجيبهم على سفههم وإلا كنا سفهاء مثلهم:
إذاجاريت في خلق سفيها … فأنت ومن تجاريه سواء
والمثل يقول: (من ذا يعض الكلب إن عض) وإنما الناس أوعية فلينفق كل مما عنده، ومن كان وعاء للخير فلا يصدر منه إلا خير، والمؤمن ينبغي أن لا يكون إلا