في يوم بدر أيضا- استشار أصحابه في شأن الأسرى من المشركين- وكانوا سبعين أسيرا- فأشار عمر رضي الله عنه بقتلهم لأنهم رؤوس الفتنة ونافخوا ضرامها والواقفون في طريق الدعوة، فقتلهم تنقية للأشواك وإماطة للأذى من طريقها، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالعفو عنهم، بعد قبول الفدية منهم قائلا: يا رسول الله: هم أهلك وعشيرتك، وقد مكنك الله منهم بالنصر والظفر، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم ليكون ذلك عونا لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله لك فيكون ذلك عضدا، فأخذ صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، وأخذ الفدية من موسري الأسرى ومن كان منهم فقيرا ويعرف القراءة والكتابة جعل فداءه تعليم عشرة من الأنصار القراءة والكتابة، وعفا عن كثير ممن لم يجد مالا ولم يعرف قراءة ولا كتابة، ولكن الآية بعد ذلك نزلت على رأي عمر وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فاغتنم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وفت في عضده وقال: "لو نزل بلاء من السماء لما نجا منه إلا عمر".
وهكذا تبلغ عناية الإسلام بالشورى فيفرضها حتى على الرسول الأعظم وينزل وحيه على خلاف رأيه لينزع الغرور من نفوس الناس فلا يجدوا غضاضة في المشاورة بعد أن يروا المؤيد بوحي الله يشاور وبعد أن يروا الآية تنزل على خلاف رأيه صلى الله عليه وسلم لذلك يقول بشار:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن … برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة … فريش الخوافى قسوة للقوادم
لله ما أحكم قول بشار: فريش الخوافي قوة للقوادم، كأنه يشير إلى أن التشاور تعاون، والحياة تعاون، وخير التعاون وأجداه تعاون العقول وهو التشاور.
ولذلك قيل: الرأي الواحد كالحسيل، والرأيان كالخيطين والثلاثة أمرار
لا تنقض، وقيل: نصف رأيك عند أخيك فاستشره، والمستشير يأخذ عقول الناس بالمجان، وهو قلما يندم لأنه باستعانته بعقول الناس يأخذ احتياطه ويضيق دائرة مسؤوليته، ثم هو قلما يخيب، لذلك قول صلى الله عليه وسلم: لا خاب من استخار، ولا ندم من استشار" وقال عمر رضي الله عنه: الرجال ثلاثة،: رجل ذو عقل ورأي فهو يعمل عليه،